هي "مجزرةٌ" بكلّ ما للكلمة من معنى. عشرات الشهداء، وآلاف الجرحى، و"فاتورة الدم" لا تزال مفتوحة على مصراعيْها. ما حصل في بيروت لا يُصدَّق، تماماً كردّة فعل السلطة، التي تخبّطت من جديد، بين روايات ضاعت بين "الكارثيّة والفضائحيّة"، قبل أن تلجأ إلى "البكاء على الأطلال"، الذي لن يشفي غليل أحد…
في اللحظة "المشؤومة"، دوّى الانفجار الهائل في بيروت. للوهلة الأولى، لم "يستوعب" أحد ما حصل، فيما كان الزجاج يتطاير من كلّ حدبٍ وصوبٍ، والناس يركضون نحو "مجهولٍ" لا يعرفون وجهته. هل هو "زلزالٌ" ضرب المدينة وأربك سكّانها، أم هو اعتداءٌ "إرهابيّ" بدا توقيته "مثالياً" على مسافة ثلاثة أيام من الحكم المُنتظَر في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري؟
وبعد "دحض" السيناريوهين السابقين، كرّت سبحة الأسئلة، ومعها التكهّنات القابلة للأخذ والردّ. فماذا لو كان العدوّ الإسرائيليّ متورّطاً في ما حدث؟ هل يمكن أن يكون قصفاً صهيونياً استهدف مخزن أسلحة لـ "حزب الله"، كما أشيع، ربطاً بالأنباء عن طيرانٍ إسرائيليّ حلّق في الأجواء قبيل دويّ الانفجار، وتوازياً مع قرع "طبول الحرب" المستمرّ منذ نحو أسبوعيْن؟!
"بيروت منكوبة" والكارثة كبيرة.. تفاصيل كاملة عن انفجار المرفأ الدامي، صاروخ صهيوني ذكي استهدف مخازن أسلحة ثقيلة لـ"حزب الله".. القصف جرى من بحمدون؟
ليته كان كذلك!
سريعاً، استُبعِدت فرضيّة الاعتداء "الصهيوني" أيضاً، لأسبابٍ كثيرة، بينها نفي العدوّ نفسه أيّ دورٍ له في الاعتداء، فضلاً عن تأكيد المقرّبين من "حزب الله" أنّ الرواية الافتراضية "غير منطقية"، وأنّ "الحزب" لا يمكن أن يخزّن أسلحته في منطقةٍ "مكشوفة" كمرفأ بيروت.
لكن، بعد بدء تكشّف الخيوط الحقيقيّة لما حدث، أو بالحدّ الأدنى، رواية السلطة، التي تحدّثت عن انفجار كمّياتٍ "مخزَّنة" من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت منذ العام 2014، ثمّة من قال، "ليته كان اعتداءً صهيونياً". نعم، ليته كان كذلك، لأنّ التورّط الصهيوني وحده كان يمكن أن يخفّف من وقع "الفضيحة"، ليوضَع ما حصل في سياق الصراع "التاريخيّ" مع العدوّ.
إلا أنّ ما حصل ليس كذلك، كما تؤكد كلّ المُعطيات، ولو أنّ "التحقيق" لا يزال في بداياته. ما حصل، يقول العارفون، هو نتيجة للفساد والتقصير والإهمال، وكلّها جرائم تتشارك فيها مختلف أطياف الطبقة السياسية، السابقة والحاليّة، والتي لم تعد مسؤوليتها مقتصرة على نهب أموالٍ من هنا، واستفادةٍ من السلطة هناك، بل باتت أيديها ملطّخة بدماءٍ بريئة سقطت من دون ذنب.
ما العمل؟!
إزاء كلّ ذلك، قد لا تكون ردّة فعل السلطة على "مجزرة" بيروت، أقلّ "كارثيّة"، من الانفجار بحدّ ذاته. بعضها لم يتوانَ في اللحظات الأولى عن تبنّي رواية "المفرقعات" المثيرة للسخرية، باعتراف بعض المراجع الأمنية، فيما ذهب بعضها الآخر إلى التلويح بإجراءاتٍ، وإطلاق وعودٍ وشعاراتٍ، لم يعد أحدٌ يصدّقها.
في إطلالته الأولى بعد الانفجار، والتي جاءت مقتضبة، اكتفى رئيس الحكومة حسّان دياب بالقول إنّ المتورّطين بالكارثة "سيدفعون الثمن"، قبل أن يعلن المجلس الأعلى للدفاع بيروت "مدينة منكوبة"، توازياً مع فرض حالة "الطوارئ" على العاصمة، والحديث عن فتح تحقيقٍ "يفترض" أن يفضي إلى نتائج خلال مهلةٍ أقصاها خمسة أيّام.
كلّ ذلك لا يكفي الآن. المطلوب خطواتٌ جدّية وملموسة، لا مجرّد كلام وشعارات. المطلوب محاسبةٌ فعليّة للمسؤولين والمتورّطين، من رأس الهرم أولاً، بما يشفي غليل الناس، ولو بالحدّ الأدنى، المطلوب أن يتحمّل المسؤولون مسؤوليّاتهم، بالمعنى الحقيقيّ، وليس بالمعنى الذي اعتمدوه طيلة الحقبة السابقة، المطلوب أن "تتدحرج الرؤوس"، أياً كانت، لأنّ ما حصل لا يمكن أن يمرّ دون عقاب.
ما بعد "هيروشيما بيروت"، كما أطلق عليها البعض عن وجه حقّ، لا يمكن أن يكون كما قبلها، أمام السلطة خياران لا ثالث لهما، فإما أن تتحمّل مسؤوليّاتها من تلقاء ذاتها، فيُحاسَب جميع المتورّطين بلا استثناء، ومن دون البحث عن "كبش محرقة"، وإما أن ترحل بكلّ أطيافها، وبلا أسفٍ عليها، سواء من تلقاء ذاتها... أو بالقوّة!