مع غياب شارون عن المشهد السياسي عام 2006؛ أفل نجم الجيل المؤسس الموّحد في دولة إسرائيل، وإنتهى عهد القادة الملهمين اصحاب الكارزما القيادية الجامعة، وبدأت مرحلة جديدة يمكن تسميتها بمرحلة غياب الرؤى الجامعة، وهذا الأمر ليس إنطباعي بل تعكسه نتائج انتخابات الكنيست عبر دوراته الأخيرة بحيث شهدت حالة غير مسبوقة من التشرذم والبعد عن الطروحات والبرامج الوطنية الشاملة وانزياحها لصالح تلك الفئوية ذات القضايا الضيقة، وقد أتاح ذلك الفرصة لبروز تنظيمات واحزاب قوية لكن بشكل مؤقت مثل حزب كاديما الذي بدا لوهلة كوريث جامع لقوة الصهيونية المؤسسة بشطريها الليكودي والعمالي، لكنها سرعان ما اختفت بشكل نهائي عن المشهد بعد غياب تمثيلها كليا في الكنيست العشرين.
وقد كان هذا التشرذم سمة مشتركة في كل من العمل والليكود، غير أنه بشكل نسبي كان في العمل أكبر وأعمق بكثير مما حدث في الليكود، وذلك منذ تولي عمران متسناع قيادة الحزب وخسارته التاريخية امام مرشح الليكود، وتوالى فشل الحزب لدرجة كاد يتفوق عليه غير مرة حزب شاس الديني في انتخابات الكنيست، وهذا الأمر انتج ضعفا في طروحات الحزب وبرامجه وحلوله التي كان يستقطب بموجبها الجماهير لدرجة كانت اهم قضاياه في انتخابات الكنيست العشرين الأخيرة هي دعم أطفال الروضة في المدارس بدل الطروحات الشاملة والرؤى حول حلول الصراع العربي الصهيوني وآفاق التسوية ومستقبل اسرائيل والمنطقة.
إن هذا التراجع قد افسح المجال لتنامي وجود ودور القوى الناشئة مثل كاديما والقوى الدينية بشكل كبير خلال هذه المرحلة، وبذات الوقت تركّز الجدل والحراك السياسي حول قضايا تقليدية قديمة لا تتضمن حالة من الإبتكار والخلق والتجديد؛ وبالتالي إنقسام عريض بين عدة تيارات أبرزها تيار يميني قومي ديني تنظر ليهودية الدولة من منظور قيمي عقائجي ديني، وتيار آخر يساري علماني ليبرالي ينظر لها من زاوية أنها قومية وثقافية وتاريخية فقط، وبناء على ذلك تم تقديم هذا القانون من قبل التيار الأول لفرض معادلة قانونية دستورية تجسّد التأويل المحافظ والديني لليهودية على حساب التأويل الآخر.
ويمكن فهم طرح هذا القانون أيضا في سياق حالة التنافس وربما الصراع بين السلطات في إسرائيل؛ حيث ترى غالبية القوى اليمينية والدينية في السلطة التشريعية (الكنيست) بأن السلطة القضائية وعلى رأسها المحكمة العليا تشكل حاضنة للقوى الليبرالية اليسارية، وبالتالي يمكن النظر لطرح هذا القانون بأنه محاولة للوقوف بوجه هذه التوجهات للسلطة القضائية وفرض أمر واقع عليها لا يمكن لها تجاوزه.
وطالما نظر التيار اليميني الديني لبعض أحكام وقرارات المحكمة العليا بأنها إخلال بوثيقة تأسيس الدولة ويهوديتها، لا سيّما عندما تصدر أحكاما لمتقاضين عرب يطالبون بحقوقهم على حساب طرف آخر يمثله إما أشخاص يهود أو الدولة، ومن وجهة نظر المحكمة فإنها تكون قد نفذت القانون بكامل نظرة العدالة والمساواة التي تتضمنها الهوية الديمقراطية لإسرائيل؛ وهي الهوية التي يسعى القانون للحد منها لصالح الهوية اليهودية للدولة.
وللبعد الديموغرافي دور اساسي في تبني طرح القانون بهذا الإصرار والزخم والتكرار، فعلى الرغم من نسب النمو السكاني المرتفعة بين المتدين اليهود والتي جعلت وجودهم يرتفع بين السكان اليهود من 10% عند بداية تأسيس الدولة إلى نحو 25% عام 2015، إلا أن هذه النسب لا تعكس واقع النمو السكاني الطبيعي بين اليهود في إسرائيل مقابل النمو السكاني بين العرب هناك، وهذا أمر كان يشكل هاجسا لدى الصهاينة على الدوام، وهو دافع اساسي للبحث عن مصادر جديدة لهجرة اليهود إلى إسرائيل، وبالتالي جاء في نص القانون أن إسرائيل دولة لليهود أينما كانوا.
ومن الجانب الآخر فإن هوية الدولة المتنازع عليها نظريا بين الهوية الديموقراطية والهوية اليهودية تفضي لإفساح المجال واسعا أمام الطروحات التي تعرّي السياسات العنصرية لإسرائيل، والنظر للمطالب العربية بأنها مطالب عادلة في مساواتهم بأقرانهم اليهود سواء فيما يتعلق بتوزيع موارد الدولة ومكاسبها بعدالة، او فيما يتعلق بحق العرب في إسرائيل بتقرير مصيرهم ومصير الدولة التي ينتمون لها نظريا على الأقل.
ورغم أن السعي لإقرار هذا القانون يبدو محاولة لإنتزاع حقوق العرب السياسية هناك، وتركهم بلا هوية من خلال إلغاء صفة اللغة الرسمية عن اللغة العربية، إلا أن حقيقة الواقع تؤكد أن هذه الحقوق منتزعة حتى في ظل عدم إقرار هذا القانون، والأدلة كثيرة جداً على ذلك، كما أن هذا القانون يأتي للتخلص من شبح العودة الفلسطينية، ويترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام العودة اليهودية (لأرض الميعاد).
لقد جاء رد الأحزاب العربية في إسرائيل على هذا القانون من خلال المطالبة بوثيقة «المستندات المستقبلية» التي تبنتها قوى سياسية ومدنية عربية طالبت فيها بالمساواة المدنية والقومية في مقابل تقرير المصير للمواطنين اليهود القاطنين في إسرائيل، بهدف الفصل بين إسرائيل كدولة الشعب اليهودي؛ وإسرائيل كتعبير عن حق تقرير المصير لليهود مواطني الدولة فقط، وقد شكّل هذا المطلب مصدر قلق للقائمين على المؤسسات السياسية الإسرائيلية يتنوع خلفياتهم وأحزابهم؛ لدرجة أن بعض القوى والاحزاب اليمينية والدينية قد أعتبرتهم أعداء للدولة اليهودية، مما حدى بهم للدفع بإتجاه تمرير هذا القانون.
يهدف الذين قاموا بتبني هذا القانون إلى الحد من مساحات العمل السياسي المتاح للعرب وفقا للطرح الديموقراطي السائد نظريا، أو على الأقل التضييق من هذه المساحات بحيث تمنعها بشكل نهائي من تحدي الطابع القومي اليهودي للدولة، وهو أمر أقرته قبل سبعين عام هوية إستقلال الدولة، لكن القانون يسعى لتفريغ مضمون المواطنة العربية من جوهره، وجعلها مواطنة بلا هوية ولا روح، ولا حتى هوية سياسية راسخة، وأن تصل القوى السياسية العربية لقناعة بأن مصلحة الدولة التي تمثل اليهود لا تمثل بذات الوقت مصلحة للعرب ايضا، بل ربما عكس ذلك تماما.