في المعنى الذي ينطوي عليه الرحيل، فإن الحياة تتوقف عند نقطة لتطوي ما قبلها وإلى الأبد، غير أن ذلك لا ينطبق على الأفكار التي تظل حية يانعة ما استطاعت أن تتمثل عصرها، وتعبّر عن راهنيتها وحيويتها وديمومتها، على رأي وبمقدار ما تمتلك الأفكار من حيز يلامس الوجدان الجمعي تكتب لها الحياة، وتمتلك حركية الاستمرار.
من هنا فإن حياة الإنسان، خصوصاً المفكر، تقاس لا بالرحيل والغياب البيولوجي، بل في الحضور الذي تستطيع معه مقولاته أن تعمر طويلاً، وتبقى في تلافيف عقول الناس، وبمقدار ما تسنى له أن يضيف إلى المعرفة الإنسانية، وبستان العلم والعقل والمشاعر.
وعلى ما مرّ من سنين وأعوام وعقود وقرون ودهور، على غياب جسوم فلاسفة ومفكرين ومصلحين، فإن مقولاتهم ما تزال تمثل عناوين بارزة وشارات وعلامات ومنارات يستدل بها ورثة الحكمة والباحثون عن «ضالة المؤمن».
يحضر مثل هذا الخاطر ونحن نودع المفكر المصري أنور عبد الملك، ونقف في منطقة اللحظة الفارقة والمُفارَقة لغياب واحد من الأسماء المهمة في النهضة العربية الثانية التي تلت ما أسس له محمد عبده، ورفاعة الطهطاوي، وسواهما.
نقول «فارِقة»، لأن أفكاره شكلت قراءة نقدية مبكرة ونابهة ويقظة لضحى الواقع العربي في مرحلة المد الثوري بمصر قبل أكثر من ستة عقود، وهو نقد ينطلق من الحرص والإيمان، والمفارقة أن رحيله تزامن مع مرحلة انتقالية ظهر فيها الحراك الشعبي الذي كان يمثل هاجسه اليومي وهو في منفاه الطوعي بالعاصمة الفرنسية باريس.
داهمه الموت، ومصر وكثير من البلدان العربية تقف على مفترق طرق، وهي لحظة كان يغذ الخُطا ليرى ملامحها وهي تترسم واقعاً، ويقارب من خلال ذلك مقولاته وقراءاته، ليس للخريطة السياسية والثقافية والاجتماعية في مصر، بل لوعي حركة التاريخ، وعلاقات الأمم وجدل النظرية مع الواقع، الذي يرى أنه يفرض طبيعة الصراعات، وكذلك التحالفات.
وعدا ذلك، كان ليتاح له أن يختبر «التباين بين الواقع الذي أنتج الأفكار، والمعطيات الجديدة التي فرضها كفاح الشعوب في مواجهة الغرب الاستعماري».
ربما يمتلك بعض الدارسين لفكر الراحل المبرر لوصف فلسفته ب «الشعبية» التي ظلت في سياق الخطاب الإصلاحي والتنويري، تفتقد للنظرية واتساقها، لكن ما يميزها أنها قامت على «الإيمان والصدق والموقف»، وانبنت على ثقافة واطلاع واسعين للحضارة والثقافة والفلسفة والفنون، وتأسيس أكاديمي في علم الاجتماع وانفتاح على المعرفي.
واجتمع في «شخصية» عبدالملك مزيج من المسيحي القبطي وصاحب الاتجاه الماركسي، والانتماء العروبي ونزعته الإنسانية العقلانية، وهي الشخصية التي كانت تمثل رهاناته لتحقيق النهضة التي تضارع «الوطنية»، عادّاً الوطن هو «المرجع الأول والأخير»، ومن هنا انتقد التجربة الناصرية، ولكنه لم يسعَ إلى هدمها، رغم أنه تعرض لعقوبة الحبس، بل ظل يفتخر بمنجزاتها، كما ظل مخلصاً لهوية الأمة العربية الإسلامية، مفتحاً على الشرق، رافضاً كل دعاوى العولمة كشرط للتحديث، وكان يرى فيها محاولة للهيمنة لا تؤدي إلا إلى مزيد من التبعية. وهو من أول الباحثين الذين التفتوا إلى مسألة الاستشراق في دراسة له بعنوان «أزمة الاستشراق»، تناولها في ما بعد المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد منهجياً ونظرياً.
كان تركيز عبد الملك بحكم تخصصه الأكاديمي، ينصب على موضوع الشخصية، التي تمثل بوتقة الأسرة والدولة والأمة، والتي بصلاحها يصلح المجتمع، قارناً النهضة بالتنمية التي تتحقق من خلال الشخصية الاجتماعية والثقافية.
وفي تحليله لأزمة مصر و «توهانها»، خلص إلى أن الأسباب تعود إلى «تفكيك القاعدة الاقتصادية والتاريخية، وتفكيك الطبقة الوسطى، وخصومة التيارات الفكرية الرئيسية، وإهمال دوائر التحرك الأساسية» (يقصد بها مؤسسات المجتمع المدني),
قضية المثقف الوطني، كانت المحور الأساس في فكر الرجل، الذي رأى في كتابه «الثقافة والفكر»، أن التعددية بمفهومها السياسي من الشروط الأساسية للنهضة.
كان مدافعاً عن الإسلام والعروبة، ومقاتلاً شرساً ضد التبعية وأشكال الهيمنة، داعياً إلى اعتماد العرب على أنفسهم، والتوجه شرقاً، وربما لم يغادر خلال كثير من طروحاته رومانسية جيل الستينيات وأحلامهم، في اختياره عناوين كتبه، ومنها مثلاً: «رياح الشرق»، ولم يغادر منطقة تلك الفترة ومناخاتها في صياغاته الإنشائية التي تطغى عليها المفردات الرومانتيكية: «على العرب أن يتوجهوا شرقاً للاستفادة من كنوز (الشرق الفنان) الذي استطاع في (مسحة عبقرية) أن يوائم بين (الروح والجسد)».
ويفسر ذلك فلسفياً، أن أوروبا «أرسطية»، تقوم على فكرة (أحادية) و (فردانية)، بينما الشرق يرى الوجود على أنه (كل) و (جمع).
ربما يتفق كثيرون معه، ويختلف معه مثلهم، لكن أحداً لا يمكن أن ينكر عليه «إصراره التراجيدي» للخلاص القومي، فقد ظل حتى أيامه الأخيرة يراهن على المثقف العضوي، الصلب المؤمن بقضيته المخلص لها، الذي يستطيع أن يحمل مشروع النهضة.
رحل أنور عبد الملك،
وترجّلت أفكاره.