في أثناء اندلاع المظاهرات والإضرابات الفرنسية ضد التشريع الفرنسي الساركوزي المقّلص للمنافع والامتيازات الوظيفية في البلاد، ظن المراقبون أن الغلبة ستكون لليسار، وأن ساركوزي وحكومته لا شك مهزومون.
ولدهشة الجميع فاز ساركوزي وحكومته ومر التشريع الذي مدد مدة الخدمة التقاعدية، وقلص المنافع والامتيازات الوظيفية، وفشل اليسار في منع إقرار ذلك مقارنة بنجاحه 1986، 1995، 2000 في منع مرور عدد من الإجراءات والتشريعات .
وفي تفسير ذلك يقول الأستاذ الفرنسي لاري بورتيس (CP,Vol.17,No. 21: 1-15,2010) : لقد تم بناء نظام الضمان الاجتماعي الفرنسي ونظام التقاعد ونظام الخدمات العامة الراهنة في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة،عندما كانت فرنسا في حالة دمار شامل، بعدما تم تحريرها من الا حتلال الألماني النازي وعميلته حكومة فيشي،على يد الأجداد والجدات الذين اشتركوا في مقاومة ذلك الاحتلال.
واليوم، ومع أن فرنسا هي الدولة الخامسة الأعظم اقتصادياً في العالم، إلا أنه يقال أنه ليس بالإمكان مواصلة هذه المنافع والامتيازات أو الضمانات العامة التي أعطيت عندما كان هناك فراغ سياسي إثر تحرير فرنسا من الاحتلال النازي وحكومة فيشي. كان اليمين السياسي منزوع الثقة ، لأنه كان إما مولياً وجهه نحو ألمانيا إبان الاحتلال ، أو يسعى لحماية نفسه بالانضمام الى المقاومة قبل فوات الأوان (ومن ذلك انضمام الرئيس فرنسوا ميتران إليها وتحوله إلى اشتراكي بعد أن كان متعاوناً مع الألمان وحكومة فيشي) .
في أثنائه كان الرأسماليون الفرنسيون مشبوهين سياسياً وفاقدين تمثيلهم السياسي مما أجبرهم على إحناء رؤوسهم في إطار راديكالي معاد. وهكذا تم ترك الساحة السياسية للضابط شارل ديغول ورموز المقاومة،وبخاصة الحزب الشيوعي، الذي كان أكبر حزب سياسي بعدد الناخبين المؤيدين.
في هذه الأجواء والحاجة إلى التضامن القومي، تحالف ديغول مع الحزب الشيوعي على أساس برنامج وضعه مجلس المقاومة القومي ، دمج فيه العمال والنشطاء السياسيين في جهد قومي لإعادة بناء الاقتصاد. ومن هذا الجهد تم إنشاء نظام ضمان اجتماعي شامل يغطي الصحة والبطالة ويوفر العوائد التقاعدية المرتفعة. وقد صدرت المراسيم الخاصة بذلك في تشرين الأول سنة 1945م التي دمجت في دستور الجمهورية الرابعة فيما بعد إثر استفتاء عام. إن المبدأ العام الذي قام عليه هذا النظام هو أن الدولة والأمة ملتزمان بمساعدة المواطنين وبخاصة المهمشين منهم كالنساء والأطفال والشباب والعمال المسنين مع الكرامة. ومن أجل ضمان عمل هذا النظام وتوفير ما يلزم لاستمراره سيطرت الدولة على الصناعات المؤثرة مباشرة على معيشة السكان. كما دعا مجلس المقاومة القومي إلى العودة الى الأمة في كل ما يخص وسائل احتكار وسائل الإنتاج المهمة ونتاج العمل الجمعي مثل موارد الطاقة، والموارد المعدنية، وشركات التأمين والبنوك الكبيرة...
وفي الوقت نفسه تم إنشاء نظام إداري معقد كانت النقابات الرئيسة جزءاً لا يتجزأ منه، بل وأصبح زعيم الحزب الشيوعي في حينه وزيراً للوظيفة العامة. وقد دعا مسؤولي النقابات الى القيام بدور مساو ٍ في تقرير السياسة جنباً إلى جنب الحكومة والصناعة . ونتيجة لهذه الترتيبات برز مصدران للتوتر:
الأول: مرتبط بالأمن الوظيفي الذي تمتع به الموظفون وبشكليات الترفيع، فبمجرد الحصول على وظيفة في الدولة فإنها مضمونة الى حين التقاعد، لكن عضوية الموظف في نقابة رئيسة كانت ضرورية للترفيع. لقد رتب الحزب الشيوعي ذلك ليضمن استمرار نفوذه السياسي.
أما الرأسماليون فقد أسسوا (سنة 1945) المدرسة القومية للإدارة (Ecole Nationale d›Administration :ENA) لتزويد أجهزة الدولة الجديدة بالمديرين الماهرين.
وقد سيطر هؤلاء المديرون على الوظائف الإدارية العليا بينما سيطرت النقابات على من دون ذلك منها، مما حمى أصحابها من مساءلة مهما كثر غيابهم واشتد تراخيهم في العمل. وهي أسرار معروفة في فرنسا. وقد تجلى ضعف تأثير النقابات في المظاهرات الأخيرة التي جرت ضد قوانين ساركوزي، حين لم تستطع تعبئة غالبية السكان ضدها.
الثاني: هو ما يجري داخل اليسار بوجه عام في فرنسا، فالأصوات اليسارية الراديكالية التي تنتقد سياسة الحكومة قليلة، والنموذج الفرنسي الذي كان يثير الاعجاب في الخارج ينهار، والانفجار الفرنسي الضمني الداخلي الناتج عن قرارات الاتحاد الأوروبي متواصل.
لم تبذل الأقلية الصناعية المالية الفرنسية أي جهد لدعم نقابات العمال او الحزب الشيوعي المتلاشي اليوم . وحتى الإدارة الفرنسية صارت معرضة للتغيير وكل واحد داخل النظام يحني راسه لحماية فوائده الاجتماعية النسبية وبخاصة في الجامعات.
لقد أسهم الانخفاض الفظيع في عضوية النقابات وفقدان الثقة في الأحزاب اليسارية المعروفة في شدة ضياع بوصلة الجمهور واضطرابه. لكنه وفر – في الوقت نفسه – أرضية صالحة للمرشح المنافس لساركوزي، الذي استفزت سياسته الاجتماعية والاقتصادية أوسع الجماهير، لاستنهاض الرأي العام والتصويت لصالحه وبرنامجه. كما أدى اشتداد الأزمة المالية والاقتصادية في الاتحاد الأوروبي وتداعياتها في فرنسا إلى عودة الروح إلى اليسار وإلى فوزه بالحكم.