قبل فترة وجيزة فسخت محكمة استئناف عمان الموقرة قرار محكمة جنايات عمان المتضمن شمول التهم موضوع قضية "سيمي تريلات" امانة عمان الكبرى بالعفو العام، مما يعني لزوم استكمال محاكمة المتهمين والاظناء في هذه القضية.
وقد اثار قرار محكمة جنايات عمان (ومن بعده قرار محكمة الاستئناف) جدلاً قانونياً واسعاً حول مدى شمول التهم المذكورة بالعفو العام. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى اثار القرار السابق الجدل من جديد حول اثر نيابة السيد عامر البشير على اجراءات محاكمته عن تلك التهم.
واذا كان لي ان ابدي رأيي في هذه المسالة فإنني وفي سبيل ذلك يمكنني استعراض رأيي بهذه المسالة على النحو التالي: اولاً: في مدى شمول التهم موضوع قضية "سيمي تريلات" امانة عمان الكبرى بالعفو العام: وفي ذلك اقول بانه ومع الاشادة بقوة ومتانة قرار محكمة جنايات عمان الصادر بهذا الخصوص والذي يعكس الى حد كبير مدى التطور القانوني الذي وصل اليه قضاؤنا الاردني، اقول ومع ذلك فإنني ارى ان التهم موضوع القضية المذكورة لم تشمل بالعفو العام الاخير
ويمكننا ان نسوق الاسانيد والحجج التالية للتدليل على صحة رأينا هذا على النحو التالي: 1- فصحيح ان سمة الموظف العام لم تتوافر في نائب امين عمان السابق الا بموجب قانون الجرائم الاقتصادية وصحيح ايضاً ان اموال الامانة لم تكن لتكون اموالاً عامة لولا قانون الجرائم الاقتصادية ايضاً (ونؤيد محكمة جنايات عمان الموقرة في ذلك بالكامل)
الا ان المحكمة الموقرة فاتتها حقيقة هامة وجوهرية تتمثل في ان قانون العفو العام ورغم كل ما سبق يبقى مجرد قانون تابع لا يمكن بحال ان يكفي وحده لان يقوم او ينهض اساساً كافياً للتجريم، وانما لا بد من وجود نص تجريمي اصيل ابتداء ليُعمل قانون الجرائم الاقتصادية أثره ودوره في تعديل نطاق التجريم الذي تضمنه ذلك النص (الاصيل) او يشدد في العقاب الذي فرضه ذلك النص. وعليه
ولما كانت القاعدة الكلية ان "التابع تابع ولا يُفرد له بحكم" فيكون من شأن ذلك ان يصل بنا الى النتيجة التي يقتضيها حسن التطبيق السليم والقويم لقواعد القانون (وبما يتفق مع روحه والاسباب الموجبه لوضعه) والمتمثلة في ان عدم النص على قانون الجرائم الاقتصادية ضمن مستثنيات المادة (3) من قانون العفو العام لا يعني بحال شمول الجرائم الاقتصادية (التي يتصدى اليها هذا القانون بالمواجهة التجريمية والعقابية) بالعفو العام حتى ولو لم يكن من الممكن ابتداءً ان يشملها النص الاصيل في قانون العقوبات لولا قانون الجرائم الاقتصادية محل البحث.
الصحيح هو ان عدم نص قانون العفو العام على قانون الجرائم الاقتصادية ضمن مستثنيات تطبيقه ليس لنيته شمولها به (ولا يمكن ولا يصح ولا ينبغي عقلاً ومنطقاً ان يكون كذلك) وانما ببساطة لكون قانون الجرائم الاقتصادية مجرد قانون تابع لا يمكن ان يفرد له بحكم العفو، وانما يتبع في ذلك النصوص التجريمية الاصيلة في الشرائع العقابية العامة والخاصة والحال هنا المادة (175) من قانون العقوبات.
وكذلك فالناظر الى قانون الجرائم الاقتصادية يجد انه قانون غائي اي يستهدف تحقيق غاية محددة بعينها هي حماية المال العام والاقتصاد الوطني من ناحيتين اثنتين هما: من ناحية التوسع في التجريم، بتجريم ما لم تسعف نصوص قانون العقوبات في تجريمه (والحال في وقائع هذه القضية المادة الثانية من قانون الجرائم الاقتصادية في توسعها بتعريف كل من الموظف العام والمال العام)
وكذلك من ناحية التشدد في المواجهة العقابية فيما تم في البدئ تجريمه اصلاً وفقاً لنصوص الشريعة العامة في قانون العقوبات، وذلك من خلال عدد من الوسائل التي اتبعها لذلك كعدم سريان القواعد الخاصة بالتقادم على هذه الجرائم (المادة العاشرة من قانون الجرائم الاقتصادية) وكذلك المساواة في العقاب لجميع اوجه المساهمة الجنائية في هذه الجرائم وعدم السماح باستخدام الاسباب المخففة بشانها ولا تطبيق القواعد الخاصة بدمج العقوبات بشأنها باعتبار ان جمع العقوبات فيها امر وجوبي (المادة الرابعة من قانون الجرائم الاقتصادية بفقرتيها "ج" و"د")، مما يعني ان السمة العامة الغالبة على هذا القانون هي طابع التشديد ورفض اية وسيلة يمكن ان تغل يد الحق العام عن مباشرة دعواه والسير تباعاً في طريق العقاب.
وعليه، فمثل هذه السمة الغالبة في قانون الجرائم الاقتصادية يتوجب ان يكون لها دور في تفسير ارادة الشارع حول مدى شمول الجرائم التي يعالجها هذا القانون (ويتصدى اليها باسلوب مواجهة خاصة سواء في العقاب او في الاجراءات الجنائية) بالعفو العام.
فاذا كانت الغاية القصوى التي تغيا المشرع تحقيقها من وراء افراد نظام قانوني خاص بالجرائم الاقتصادية برمته هي حماية المال العام والتشدد في المواجهة العقابية بشانها فكيف لنا ومن بعد ذلك ان نقبل بان يكون افراد مثل هذا القانون اساساً (وهذه غايته وتلك سمته وطابعه) سبباً في شمول الجرائم التي يتضمنها بالعفو العام؟ 3- اخيراً، فان اجتهاد محكمة جنايات عمان الموقرة –مع بالغ الاحترام والتقدير- اذا صح على اطلاقه فإن جميع الجرائم الاقتصادية –التي افرد لها هذا القانون معالجة خاصة في قواعده- ستضحى والحال كهذه مشمولة بالعفو العام لا لشيء الا لان هذا القانون لم ينص عليها ضمن الاستئناءات التي تضمنتها مادته الثالثة.
الصحيح انه ولتلافي هذا الاشكال في التفسير لا بد من القول بأن عدم نص المشرع في قانون العفو العام على استثناء قانون الجرائم الاقتصادية من نطاق تطبيقه لا يعني ولا ينبغي ولا يصح ولا يجوز ان يفهم بان القصد منه شمول العفو العام للجرائم التي يعالجها هذا القانون ويتصدى اليها بالمواجهة والتنظيم، وانما يعني بالضرورة وبحكم اللزوم العقلي والمنطقي ان مثل هذا القانون لا يدخل اساساً في حساب المشرع ولا ضمن نطاق التشريعات العقابية التي يتصدى اليها بالنظر والتمحيص حين يضع قانون العفو العام، وذلك باعتباره كما قلنا مجرد قانون تابع لا يمكن ان يكون بحد ذاته سنداً كافياً للتجريم وللعقاب وانما لا بد ان يتبع في جميع الاحوال نصاً اصيلاً بالتجريم فيكمله او يعدل في بعض القواعد التي يتضمنها هذا النص للتوسع في التجريم والتشدد في العقاب لغايات تحقيق ما وضع هذا القانون اساساً من اجل تحقيقه من اهداف على رأسها حماية المال العام والاقتصاد الوطني.
وقانون العفو العام كما قلنا وفي هذا الاطار لا يمكن بحال ان يفرد له بحكم العفو الذي يتوجب ان تنحصر مسألته في المصدر الاصيل للتجريم والعقاب والحال في هذا المقام قانون العقوبات وبالتحديد المادة (175) منه. ثانياً: في اثر نيابة السيد عامر البشير على اجراءات محاكمته: وحول هذه المسألة نقرر بادئ ذي بدء بأن هنالك نوعان من الحصانة: حصانة اجرائية تمتاز بانها مؤقتة من ناحية عن مدة عمل المجلس فقط، كما وتمتاز من ناحية اخرى بانها عامة بحيث تشمل جميع الجرائم التي تنسب الى النائب، وهي التي عالجتها المادة (86) من الدستور الاردني.
واضافة الى هذه الحصانة هنالك نوع آخر هو الحصانة الموضوعية التي تمتاز بانها مطلقة من ناحية وقوعها كسبب تبرير يزيل حالة الاجرام –المقررة وفقاً للشريعة العامة- من اساسها، كما وتمتاز من ناحية اخرى بانها خاصة بالاقوال التي يدليها النائب ووفقاً للشرائط التي حددتها المادة (87) من الدستور.
والصحيح اننا في قضية السيد البشري امام مسألة الحصانة الاجرائية لا الموضوعية، وهي قيد يقع على حرية النيابة العامة في تحريك دعوى الحق العام الخاصة بالجرائم موضوع القضية محل البحث، ولما كنا في الحصانة الاجرائية امام قاعدة اجرائية لا موضوعية فان العبرة فيها هي بلحظة تحريك دعوى الحق العام لا بلحظة ارتكاب الجريمة التي اتخذت منها تلك الدعوى سبباً لها
وعليه فمسألة الصفة النيابية يتوجب توافرها بلحظة تحريك دعوى الحق العام لا قبل ذلك، باعتبار ان صفة النيابة التي تمنع من تحريك دعوى الحق العام هي فقط تلك التي يتوجب توافرها في اللحظة التي يتم فيها تحريك دعوى الحق العام باعتبار ان تلك اللحظة فقط هي الوحيدة التي يتم فيها التساؤل عما اذا كان هنالك قيد يمنع من بدئ تحريك دعوى الحق العام من عدمه، اما الحال لدينا في قضية السيد البشير فان دعوى الحق العام تم تحريكها في وقت لم تكن فيه صفة النيابة متوافرة اي قبل اكتساب السيد البشير تلك الصفة
وعليه، فأما وقد تم تحريك دعوى الحق العام بشكل صحيح وفي وقت لم يكن به اي قيد يعوق تحريكها فإنها تتحرك كالعجلة بشكل تلقائي وذاتي دون تدخل من احد ولا يحول دون استمرار كرة الثلج الخاصة بها في التدحرج سوى الاسباب التي حددها القانون لذلك حصراً، ودليلنا على صحة هذا التخريج ما تضمنه نص المادة (2/3) من قانون اصول المحاكمات الجزائية والمتضمن انه [ولا يجوز تركها او وقفها او تعطيل سيرها الا في الاحوال المبينة في القانون]
ولكن ما هي الاحوال المبينة في القانون التي قصدتها المادة السابقة؟ وهل تدخل صفة النيابة في ضمنها او من قبيلها؟ الصحيح ان اسباب وقف او تعطيل دعوى الحق العام هي –وبحكم اللزوم العقلي والمنطقي- اسباب طارئة تقع بعد تحريك دعوى الحق العام لا قبل او عند تحريكها، ومثالها الوفاة والعفو العام وصفح الفريق المتضرر وغيرها، ولا يمكن بحال ان تكون النيابة من قبيلها لسبب بسيط هو ان اكتساب صفة النيابة سبب يحول دون تحريك دعوى الحق العام اصلاً وابتداء اي قبل تحريكها لا بعده، اضافة الى ان حصانة النائب عائق مؤقت لتحريك دعوى الحق العام في حين ان "الاحوال المبينة في القانون" والتي حددتها المادة السابقة هي اسباب لسقوط دعوى الحق العام بشكل مطلق لا مجرد عائق مؤقت يوقف تلك الدعوى دون ان يسقطها كما هو الحال في صفة النيابة.
مما نخلص معه الى القول بان اكتساب صفة النيابة اللاحق لتحريك دعوى الحق العام لا يمنع من استمرارها طالما انه تم تحريكها بشكل مسبق لاكتساب مثل تلك الصفة، ودليلنا الى ذلك مستمد من علة نص المادة (86) من الدستور والخاصة بالحصانة الاجرائية للنائب والحكمة التي توخى المشرع تحقيقها من وراء ذلك النص، والمتمثلة في عدم اعاقة النائب عن اداء مهام نيابته والحيلولة دون التاثير به من خلال تلك الوسائل، وهي حكمة منتفاة اصلاً في حالة تحريك دعوى الحق العام قبل اكتساب صفة النيابة.
الا انه اذا كان الحال فيما تقدم من القول هو واقع فقه النص، فإن واقع صراحة النص يوصلنا الى نتيجة مختلفة بالكلية، ذلك ان نص المادة (86) من الدستور (وهو النص الآمر كما نعلم) كان صريحاً في القول بمنع اجراءات التوقيف والمحاكمة بالكلية، اي عدم اتخاذ اي اجراء يتعلق بتوقيف النائب او محاكمته خلال فترة نيابته، وهو الحكم المستمد من اطلاق الصيغة في عبارة (لا يوقف احد اعضاء مجلسي الاعيان والنواب ولا يحاكم خلال مدة اجتماع المجلس ..)، مما يعني منع كل من اجراءات التوقيف والمحاكمة لا كمنع ابتداء فحسب وانما كمنع استمرار ايضاً، ببساطة لان كلاً من التوقيف والمحاكمة ليسا اجراء مؤقتاً وانما "حالة مستمرة في الزمن" لتصلح النيابة بدورها لان تفرض كسبب لقطع حالة الاستمرار تلك في كل منهما
فاذا بُدئ في التوقيف قبل النيابة وجب الافراج عن الموقوف فور اكتسابه صفة النيابة، واذا بوشر في محاكمته او شرع بها وجب وقف اجراءات محاكمته فور اكتسابه صفة النيابة تحت طائلة بطلان جميع اجراءات المحاكمة التي تتم بعد اكتساب الشخص المعني تلك صفة، ودليلنا الى ذلك مستمد من قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز الموقرة والذي يحمل الرقم (152/1989) والصادر بتاريخ 10/7/1989 .
مما سبق، نخلص الى نتيجتين هما: ان الجرائم موضوع القضية محل البحث ليست مشمولة بالعفو العام كما ذهبت اليه محكمة جنايات عمان الموقرة، وان نيابة السيد البشير تمنع بالقطع من استمرار محاكمته وان شرع بها قبل اكتسابه صفة النيابة وذلك تحت طائلة بطلان جميع اجراءات محاكته المتخذة بعد اكتسابه صفة النيابة وذلك باعتبار ان لفظ "المحاكمة" المقصود بنص المادة (86) من الدستور هو ليس مجرد "اجراء لحظي او مؤقت" وانما هو في حقيقة الامر "مجموعة من الاجراءات المتتابعة والمكونة في مجموعها لحالة مستمرة في الزمن"، مما تصلح معه صفة النيابة لأن تفرض كسبب يقطع تلك الحالة ويوقفها ويمنع من استمرارها.
ولنا في ذلك مثال واضح هو ما درجت عليه المحاكم من افهام الشاهد في جلسة لاحقة من انه لا زال تحت تاثير القسم الذي اداه في جلسة سابقة، الامر الذي يفهم منه استمرار المحاكمة كحالة ممتدة في الزمن لا كمجرد اجراء مؤقت او عارض يقع ويزول في لحظته،ذلك ما كان من أمر اجتهادي في هذه المسألة، ورأيي يبقى صواباً يحتمل الخطأ ورأي غيري يحتمل الصواب، فإن أصبت فمن الله وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، فعسى أن أكسب باجتهادي هذا الأجرين لا الأجر الواحد، والله من وراء القصد، وشكراً.