يعد البعوض (الهسس، الناموس، القارص...) من فصيلة الحشرات، الأكثر ازعاجاً للناس؛ اذ لا يحلو له ممارسة طقوس "الزنّ والطنّ" إلا في قلب العتمة، لحظة اقتراب الإنسان من اصطياد حلم جميل، كادت أجفانه أن تُطبق عليه.
ذكر علماء البيولوجيا: هناك أكثر من "ثلاثة الآف" نوعاً من البعوض، وحدها أنثى البعوض، هي التي تتغذى على الدم؛ لأنه ضروري لإنتاج البيض، في حين أن الذكر يتغذى على عصارة النباتات ورحيق الأزهار. تملك البعوضة حوالي "مئة" عين موجودة في الرأس، على شكل يشبه قرص العسل، وفي فمها "48" سِنّاً، ولها ستة سكاكين في خرطومها، ولكل واحدة وظيفتها.
كما ذكر العلماء، بأن البعوضة عندما تقوم بمصّ الدم، فإنها تستعمل تقنية محيّرة ومدهشة: عندما تحط على الهدف، فإنها تقوم بداية بشم الدم، فإن ناسبها نوع الدم، استمرت بالوصول إلى الهدف، فتقوم بثقب الجلد، وإن لم يناسبها تبحث عن نوع آخر.
واستطرد العلماء بقولهم: إن البعوضة مزوّدة بجهاز حراري، يعكس لها لون الجلد البشري في الظلمة، إلى لون بنفسجي كي تراه، ومزوّدة بجهاز تخدير موضعي، وبجهاز تحليل دم؛ لأنها لا تستسيغ كل الدماء.
ومزودة أيضاً بجهاز لتمييع الدم؛ حتى يسري في خرطومها الدقيق جداً، ويختار البعوض ضحاياه من خلال الرائحة، عن طريق "ثاني أكسيد الكربون" الذي يخرج من عملية الشهيق لدى الإنسان، وعن طريق شم رائحة عرق الإنسان، فالبعوضة مزوّدة بجهاز للشم، تستطيع من خلاله شم رائحة عرق الإنسان من مسافة، تصل إلى عشرات الأمتار.
حدد العلماء أعراض لدغتها بالهرش أو الحَكّة، وبانتفاخ (ورم) الجلد، ثم تحوله إلى بثور. ومن أشهر الأمراض التي ينقلها: الملاريا، الحمى الصفراء، فيروس غرب النيل، حمى الدنج. وتضع إناث معظم أنواع البعوض بيضها، في المستنقعات العذبة أو المالحة، وبرك المياه الراكدة، وينتشر البعوض في كل مكان في العالم، ما عدا قارة أنتاركتيكا، التي تقع معظمها في (القطب المتجمد الجنوبي).
أمّا فيما يتعلق بطرق مكافحة البعوض لدى الشعب الأردني، فإنها تكاد تكون واحدة: عند أول تحليق للبعوضة، تبدأ المعركة بشكل تدريجي، عن طريق (الكَشْ) باليد الواحدة، ولأن البعوضة ليس لديها عقلاً مدركاً، وتتحرك بغريزتها، فإنها تعود لغزو مساحات الجسد مجدداً، مما يتطلب من الشخص، استخدام اليد الثانية للكش مرة أخرى، مع إطلاق أول تأفف...
ولأنها عنيدة فإنها تعاود هجومها المُستميت، وهنا يبدأ الشخص "الكش" بكلتا يديه، مع إطلاق أول قديفة شتائم: "يلعن أبوكِ يا بنت الـ ..." فتباغته قبل إكمال شتيمته، بالحط على الوجه، مما يستدعي وقتها توجيه (لطمة) إلى صفحة خده، لتنهال بعدها الصفعات على وجهه وجسده بكل الإتجاهات صائحاً بأعلى صوته: "مِشااان الله حِلّي عني.. ولِكْ هو ما فِيش غيري؟!!...
أموت وأعرف ليش ربنا خلقك؟!!" فيضطر بعدها إلى القفز أو الزحف إلى أقرب (كُندرة أو حَفّاية)، والقيام بمطاردة البعوضة؛ لصفعها وقتلها، حتى لو كانت مُخيِّمة فوق وجه الزوجة ووجوه الأولاد: "آآخ لو أقظَبِكْ يا بنت الكلب.. والله غير أقطعّك باسناني".
وهنا بالطبع يكون قد أيقظ جميع أفراد العائلة، حاثّاً الجميع على ضرورة (كندرة) الأيدي لمطاردة الغزاة. إن البعوض المنزلي يعد من الحشرات، التي اعتاد عليها الأردنيون، وركنوا إلى طرقهم التقليدية في مكافحته، وذلك بعد يقينهم المطلق، في (تقصير) الدوائر الحكومية، عن القيام ببرامج المكافحة، بالرغم من المبالغ الكبيرة التي ترصد لهذه الغاية.
ولكن معاناة الشعب الحقيقية، والتي باتت تهدد وجوده، تكمن في كيفية مكافحة ذلك النوع من البعوض القاتل، الذي استوطن في (مؤسسات الدولة ومفاصلها) بحيث تحوّلت إلى قواعد ومستنقعات لجيوش ذلك البعوض، الذي أعلن حرباً لا هوادة فيها على الشعب.
فقد امتص البعوض ملايين وحدات الدم من الشعب؛ لإنتاج ملايين البيوض، التي فرّخت عشرات المليارات في البنوك المحلية والأجنبية، مُخلّفاً وراءه (خزينة) خاوية على قهرها ذاوية، باتت تستجدي ليس فقط الدول، وإنما كل عابر سبيل. هذا البعوض يجثم على رؤوسه (عيون لا تُعد ولا تُحصى)، يبحث عن (الدماء) في الليل والنهار، مستسيغاً كل أنواعها، يلدغ الصغير والكبير، والعاجز والضرير، ومتوسط الحال والفقير.
لقد لدغ الوطن في قلبه، وتركه (متورِّماً) بالآهات وصيحات الإستغاثة، لم تُجدِ (الحراكات النزيهة) نفعاً في محاربته أو إيقاظ ضميره، حتى (الكنادر) التي استخدمها البسطاء في مكافحته، ارتدَّت (متورمة) بالإهانة والخجل...
هذا البعوض تحوّل عن ذكورته وفحولته، فتخنَّث وتخرطم؛ ليبتدع كل ألوان الفن في ثقب جلد الوطن، في ظل غياب وتغييب برامج المكافحة الحكومية، وبالتالي لم يبقَ أمام الشعب سوى طريقة واحدة للمكافحة: الرحيل إلى القطب المتجمد الجنوبي. [email protected] الدكتور محمد السنجلاوي