بقلم د. منذر الحوارات
في دول العالم الثالث تحاول الحكومات تقليص دور المجتمع المدني رغبةً منها في احتكار القرار وبالتالي السيطرة على الموارد وإدارتها بعيداً عن الرقابة المجتمعية وربما لا يقتصر الأمر على دول العالم الثالث فبعض الدول المتقدمة والغنية تتبنى نفس الموقف تجاه مؤسسات المجتمع المدني، وفي هكذا واقع على هذه المنظمات اذا ارادت العمل في إطار يخدم المجتمع بشكل جاد وبدون الاحتكاك مع المؤسسات الرسمية أن تسير على خيط رفيع ومشدود يضمن لها عدم السقوط في براثن اتهامات جاهز للأجهزة الحكومية أياً كان توجهها السياسي وفي نفس الوقت يحميها من اتهامات المجتمع الجاهزة بالتواطؤ مع الاجهزة الرسمية، هذه المعادلة المعقدة تعتبر بمثابة قيد يكبل اي مؤسسة مدنية معنية بالشأن العام، أما في الأردن فهناك العشرات من مؤسسات المجتمع المدني تعمل في الفضاء العام وفي أغلبها إن لم تكن جُلّها اسيرة لهذا التنميط فهي إما ضحية التمويل الخارجي الذي يفقدها مصداقيتها في الداخل أو هي أسيرة للقرار الرسمي أو متهمة به.
بالنسبة لي وإن كنت منفتحاً على جميع تلك المنظمات بل وكنت عضواً في العديد منها إلا أن عقلي الباطن كان يصنفها وفق ما ذُكر، إلى أن قادتني نصيحة أحدٍ الأصدقاء وتزكيةً منه الى لقاء مهم مع رئيس مؤسسة مدنية كنت اتابع نشاطاتها بشكل دائم وكنت أعتبرها واجهة رسمية اعني هنا جماعة عمان لحوارات المستقبل فقد كان اللقاء الأول مع السيد بلال التل الكاتب المعروف وابن الاسرة السياسية العريقة نقطة انطلاق مهمة واستثنائية للأسباب التي سأذكرها لاحقاً.
طبعاً لم تكن حماستي في البداية بذلك القدر من الأهمية لكن هذا الأمر سرعان ما سيتغير إذ دعاني رئيس الجماعة لحضور اجتماع لجنة فلسطين خلال ذلك الأسبوع وكل ما جال في ذهني أنني مقبل على هدر ساعات من الثرثرة والخطابات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، لكن الأمر بدا مختلفاً تماماً فاللجنة كانت تضم شخصيات سياسية وقانونية وتاريخية وازنة، وحينما بدأ النقاش كان وفق أجندة واضحة تماماً والنقاش يأخذ شكلاً أخاذاً في محاولة من المتحاورين للوصول إلى نقاط تمس جوهر الصراع، طبعاً هنا ادركت انني امام مجموعة متميزة من الخبراء تسعى لإيجاد آفاق ورؤية واضحة للمشاكل التي يعاني منها البلد في محاولة لإيجاد حلول عملية لها، لم تتوقف دهشتي هنا بل استمرت عندما تبين لي ان مجموعة من اللجان تعمل بشكل متواصل لإيجاد قاعدة علمية وعملية لكل المشاكل التي تواجه المجتمع فهناك لجنة للتعليم ولجنة قانونية ولجنة صحية ولجنة للسياحة، ولجان سياسية واجتماعية متعددة يرأسها خبراء مختصون كلٌ في مجاله.
لكن الملفت أن الجماعة كانت منغمسة في محاولة جادة لتمكين الحوار الأفقي والعمودي بين منظمات المجتمع المدني وصانعي السياسات، وهذا ما لمسته خلال ازمة كورونا إذ كانت الجماعة تعمل كخلية نحل فقد كنت شاهداً على عشرات الاجتماعات التي ضمت النقابات بمختلف صنوفها على انفراد او مجتمعة وكانت هذه بغية الوصول الى التأثيرات التي خلفتها الجائحة على قطاعاتهم وكيفية الوصول الى حلول مع الحكومة بشأنها، ووفقت الجماعة في عقد اجتماعات عديدة بين الطاقم الحكومي وهذه النقابات وأعتقد أن تأثير تلك اللقاءات قد وصل الى مضمون قرارات حكومية كثيرة، وفيما يخص الوباء فقد كنت بمعية القائم باعمال نقيب الأطباء وبعض الزملاء الأطباء شركاء في إعداد مشروع جاد لمواجهة الجائحة كان له تأثير مهم فيما بعد، وكان وراء كل هذا العمل رجل لا يكل ولا يمل ولا يمنعه عائق صحي أو مصيبة عائلية عن العمل وحث الآخرين على العمل، وما زاد ثقتي أن ما نقوم به في الاتجاه الصحيح هو طريقة التمويل البسيطة والسلسة والذاتية التي تحفظ للجماعة استقلاليتها وتنجيها من التأثيرات الخارجية واجندات التمويل الأجنبي، الأمر الذي يبرئ الجماعة من أي تمويل مشبوه.
عامان كنت خلالهما منخرطاً في تجربة متميزة جديرة بأن تُذكر فهي غنية بما يكفي كي تكون مثالاً يُحتذى لغيرها من المؤسسات التي تضع نصب عينها قضايا المجتمع والصعوبات التي يواجهها في محاولة لحلها فجماعة عمان لحوارات المستقبل وخلال سبع سنوات من عمرها تمكنت من أن تخط طريقاً واضحاً ورؤية جادة لقضايا البلد وكيفية الولوج في حلها.