عدت الى الكتابة اليومية وقد كدت خلال اشهر من الراحة ان استمرئ الجلوس على رصيف الصحافة أتابع وارى واسمع ما لم يكن متاحا لي في غرفة رئيس التحرير في العرب اليوم على مدى ١٤ عاما. فالأحداث والتطورات التي فاجأت الجميع في العالم العربي حملت من العواصف ما احدث انقلابا في وعي الناس فتغيرت أفكارهم وامزجتهم وطرأ الجديد على اهتماماتهم وسلوكهم العام بما يشعرك بالعيش وسط دوامة لا تتوقف من البث المرئي والمسموع الذي يلاحقك في كل مكان، فالمواطن يفطر على وجبة اخبار ويتغدى أقاويل وإشاعات ويتعشى تحليلات متضاربة عن الوضع الراهن.
نحن امام ظاهرتين: المواطن السياسي، والمواطن الصحافي، المستجدتان على بلاد عربية ومنها الأردن لم تعرف بعد التعددية بوجود حكومة ومعارضة تتناوبان على تشكيل الحكومات، وتفسير هاتين الظاهرتين يحتاج الى وقفة تأمل من السياسيين والإعلاميين. بعض هؤلاء يستهجن انخراط عامة الشعب في حقول السياسة معتبرين ذلك امتيازا خالصا للنخب في العاصمة، متجاهلين حقيقةان تفشي الوعي بحقوق المواطنة بين الناس وتطلعهم الى الديمقراطية كأسلوب حكم يدفعهم الى الانخراط بالسياسة ليس من باب الترف الفكري واضاعة الوقت انما لما يرون انه الطريق المباشر للدفاع عن حقوقهم كمواطنين.
المواطن السياسي يريد ان يرى صوته مسموعاً عند الحكومات مؤثراعلى قراراتها وأنشطتها، بالطبع هناك سلبيات وعيوب تظهر في ممارسة الحريات العامة لكن من التجني تحميل المواطنين وحدهم المسؤولية عن ذلك، هناك اسباب اخرى منها ان العلاقة بين الدولة والمجتمع، أختزلت دائماً دور المواطن وحرمته من المشاركة في إدارة شؤونه السياسية.صحيح ان المغالاة في الشعارات تتناقض مع الادعاء بالطابع السلمي للمسيرات لكن اساس الظاهرة يعود الى غياب الثقافة والممارسة الديمقراطية بما يؤدي الى الانزلاق نحو مفاهيم خاطئة ترى في اطلاق الحريات العامة دعوة للفوضى ومناسبة للاساءة الى رموز الوطن وهو مايضعف دعوات الاصلاح ويبددالجهد في تحقيقها.
على الجانب الاخر فان العلاج لا يكون بالقمع لانه لا يمكن القضاء على ظاهرة المواطن السياسي المرشحة للاتساع بينما من الممكن والمتاح دمج هذا المواطن في الأطر العامة للدولة، من خلال القيام باصلاحات تجلب الثقة بمؤسسات الحكم وبالمؤسسات الاعلامية بتحويلها الى منابر للحوار والاختلاف، وهنا تكمن اهمية التوافق الوطني على قانون الانتخابات الذي يمكن اعتبار مخرجات لجنة الحوار الوطني اساسا له. وان إدارة الظهر لهذه المخرجات والتمسك بالصوت الواحد هو السبب الاول لاستمرار حالة فقدان الثقة بالإصلاح.
وعن المواطن الصحافي فهو ليس ظاهرة عابرة اوحالة انحراف في السلوك كما تطلق عليها بعض النخب المحافظة، انما نتاج تطور روجت له الأنظمة نفسها تحت شعارات العولمة من خلال تشجيع عامة الناس على استخدام التقنية المتطورة واقتناء وسائل الاتصال والإنترنت التي قلبت أوضاع الاعلام رأسا على عقب، ان مركزية هذه الظاهرة وأهميتها ليست بحاجة للاعتراف من احد، لانها من الانتشار وتنامي الإقبال عليها ما يصعب على اي سلطة في الارض ملاحقة تأثيراتها الجذرية على طبيعة العلاقة بين الدولة والمواطن، وعلى ما أحدثته من ثورة في مسالة بناء الرأي العام من خلال ما ينشأ من روابط بين الناس الذين يتبادلون الآراء حول مختلف شؤونهم العامة على صفحات الاعلام المجتمعي.
لقد فتحت التقنية الإعلامية فضاء واسعا وجديدا للتواصل بين المواطنين كأفراد، فالاعلام يوشك ان يصبح علاقات عامة بين دوائر تضم كل منها المئات والآلاف، وهو ما يفرض تحديات جدية على الصحافة ووسائل الاعلام. كما يفرض تحديات اكبر على النظام السياسي بشكل عام.