حكومة مختبئة وبرلمان غائب وشارع فقد البوصلة
يمر المشهد الشعبي بمنعطف مرشح لالقاء المزيد من الظلال على هوة تتسع بين المواطن وأدوات السلطة، إن لم يتنبه المعنيون للأمر، ويعملوا على اعادة ضبط العلاقة مع الشارع، وإعادة النظر في سياسات اوصلته الى شفا فوهة بركانية، رافقها حالة حكومية من إنكار الواقع وتجاهل ارهاصاته.
حالة يأس شعبي متنامية، يمكن التقاطها بسهولة على منصات التواصل الاجتماعي، يغمرها شعور بانعدام أفق الأمل بغد قريب أو أبعد يحمل في ثناياه تباشير خير قادمة ، تركت أثراً بتغيّر ملموس على مفردات الشارع الساخط لما هو أبعد من نقد الحكومة، التي عجزت عن ايجاد حلول كفيلة بتحسين معيشة المواطنين، وأفلست، ومضت قدماً بتنفيذ توصيات البنك الدولي البغيضة، المستهدفة جيوبهم، فأوصلت المزاج الشعبي العام الى بناء قناعات جديدة، تبلورت لمواقف علنية غير مألوفة، ارتفع معها سقف النقد وحدته، لمستويات كسرت حواجز المحاذير والمحظورات، ما يفرض على صانع القرار إعادة قراءة المشهد بعناية فائقة، والتوقف عنده، قبل تحوّل الخطاب الشعبي الى حالة الرسوخ والاعتياد، وهو أمر له تداعيات لا أخطر.
لقد وصل الاردنيون الى قناعات مفادها : ان واقعهم الاقتصادي الصعب الذي يرزحون تحت وطأته، لن ترى عيناه نور متغيرات مأمولة لا في المستقبل القريب ولا الأبعد، تخفف من ثقل ظله عليهم، ما رفع بالتالي خطاب نقدهم الى مستويات يأسهم !.
التغاضي الحكومي عن ادراك حالة اليأس الشعبي، وصمّ أذنيها وإغلاق عينيها عن استقراء ما قد يترتب على شعور المواطنين العارم بالاحباط واليأس، وانعكاساته على واقعهم المكبوت المضغوط، يدلّل دون شك على قصور شديد في نظر الحكومة، اضافة لقصورها عن إحداث أي تغيير إيجابي ملموس على الواقع المعاش، أو حتى يبشر بقرب الانفراج ولو بعد حين.
الاخطر من ذلك، ان الاصوات الشعبية غيّرت مفردات نقدها وسقوفها، بشكل مغاير لنمط التذمر المألوف، وهو أمر يجب الوقوف عنده ملياً، وعدم الاستهانة به مطلقاً.
ضعف الحكومة، وغياب رئيسها الدائم عن التواصل المباشر مع الناس، لشرح مواقف حكومته وقراراتها، ومكاشفتهم اولاً بأول، ومحاولة تصريف احتقاناتهم، وضعه وحكومته في "مساحة آمنة" بعيدة عن النقد العام الذي وصل الناس منه حد الألفة والملل، فنحّوه وحكومته عن مرمى نيرانهم، ولم يعد الاشتباك معهما مجدياً، كما أُبعد مجلس النواب أيضاً عن ساحة الهجوم التقليدي، مع ترسخ قناعات بأن "الطخ في الميت حرام"، فخفت وطأة النقد والقاء اللوم عن الحكومة والنواب معاً، واخذت البوصلة الشعبية تبحث عن جهات مغايرة عن السلطتين اللتين لم يعد نقدهما وخصومتهما، يوازي مناسيب سقوف الناقدين المحتقنين ويأسهم .
الافراط بالاتكاء على الثوابت والمسلمات الشعبية التقليدية، لا يجب التعويل عليه عند الحكماء كثيراً، سيما حين يسيطر الجوع على البطون الخاوية ..
تنصل السلطتين التنفيذية والتشريعية من تحمل تبعات قرارات تلك وسياساتها، وغياب رقابة الأخرى وفقدان الثقة بها، يلقي بحمل ضعف السلطتين وعجزهما عن التواصل مع الناس وفض اشتباكهما معهم بالحنكة والحكمة، على مؤسسات الدولة الاخرى، ويضعها أمام بوز مدفع النقد الشعبي المباشر، وهي التي طالما كانت في الوجدان الشعبي خطوطاً حمراء، ومحرمات لا يمكن المساس بها اطلاقاً..
الاحتقانات الشعبية، لم يعد لها أية أقنية تصريف تذكر، فالمشرعون أصبحوا جزءاً من المشكلة لا الحل، والحكومة التي يتوقع منها المواطن تدبير شؤون حياته ومعيشته بالقدر المناسب، بات يرى فيها خصماً له وجيبه، وينظر لها بعين العداوة لا الوصية المؤتمنة عليه وعلى مصالحه.
السيناريوهات القادمة، على شكل وطبيعة العلاقة بين الشارع وسلطات الدولة وأجهزتها، مفتوحة على خيارات أكثر تعقيداً، اذا لم يتدخل مبضع جراحي دقيق للفاية، لفصل الخلايا التالفة على جسد العلاقة بين هذا وذاك، ودونه، تظل ذات العلاقة مرشحة لمزيد من التدهور الذي لا يمكن لأحد أن يعرف مآلاته.