تابعت باهتمام تفاصيل الحوار الذي اجرته الزميلة لميس الحديدي مع الاستاذ محمد حسنين هيكل على شاشة الفضائية المصرية (سي. بي. سي) مساء يوم الجمعة الماضي. شدني موضوع الحوار ( قضية الساعة ) ، كما شدني اسلوب الاستاذ هيكل ، الكاتب والصحفي والمؤرخ ، في تناوله القضايا الراهنة الساخنة بعقلانية وحكمة وهدوء ، عبر حديث طافح بالمعلومات والتوقعات والتصورات.
بالمقابل كانت المحاورة ، غير موفقة هذه المرة على الصعيد المهني ، فبدت وكأنها مشاركة في صراع او معركة وتريد فرض رأيها ، او جر «الاستاذ « الى موقعها وموقفها في خندق عاصفة الحزم ، دون ان تستمع ، او تستوعب ، ما قاله وردده ، أكثر من مرة ، حول المستجدات والاستراتيجيات الجديدة في عالم متغير.
خلال حديثه ، قال هيكل ان الواقع العربي يحتاج الى تصورات قبل القرارات ، واكد ان الخيار العسكري وحده لا يفرض الحلول ولا ينهي الازمات ، واشار الى مواقع وادوار ثلاث دول (ركائز) محورية في المنطقة ، هي مصر وتركيا وايران ، وهذه الدول ليست حديثة الولادة ، بل هي دول عميقة تستند الى حضارات قديمة ، ولها طموحاتها وتطلعاتها ومصالحها.
وبهذه المناسبة اكتب اليوم عن الدول الثلاث وادوارها وتوجهاتها ، في ظل التطورات السياسية والامنية في المنطقة.
مصر: كانت ، وما زالت ، هي الدولة العربية القادرة على لعب دور الدولة القائد في الوطن العربي ، وهي القادرة على اعادة ملء الفراغ الذي حدث بانسحابها من ساحة الصراع السياسي والعسكري في وقت مضى. والثابت ان الواقع العربي الراهن الغارق في العنف والفوضى والارهاب نتيجة الخلط بين السياسة والدين ، يعيد الى ذاكرتنا ان مصر تجاوزت هذا الواقع مرتين ، وعبر ثورتين. المرة الاولى في عهد ثورة يوليو ، حين نجح الرئيس عبد الناصر في منع انقضاض «الاخوان « على السلطة في مصر ، وكرس فصل الدين عن الدولة ، واقام الدولة المدنية القومية. وفي المرة الثانية حين نجحت ثورة يونيو في تخليص مصر من انفراد «الاخوان « في السلطة والحكم ، وقد اعادت مصر صياغة مستقبلها الوطني والقومي ، وتطبيق ما قررته خريطة الطريق ، على قاعدة ان مصر لكل المصريين بكافة طوائفهم الدينية واطيافهم السياسية.
تركيا: عندما وصل حزب العدالة والتنمية الى السلطة راودته افكاره العقائدية باقامة دولة سياسية اسلامية ، ولكن هذا القرار اصطدم بحاجز الحلم التركي القديم الجديد المتمثل برغبة اتاتورك بالانضمام الى القارة الاوروبية. هذا الواقع اجبر القيادة التركية على التراجع خطوة الى الوراء ، بحيث اصبحت تركيا « لا دولة اسلامية بالكامل ولا دولة علمانية بالكامل «، ورغم ذلك لم يسمح لها بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي ، فعادت ادراجها تبحث عن هويتها ، ولأن ليس بمقدور اردوغان العودة الى الدولة الدينية ، عمل على اعادة احياء مشروع الدولة القومية المتمثل باقامة الامبرطورية العثمانية ، من خلال فرض دور اقليمي لتركيا يليق بحجمها وتاريخا وطوحاتها بعد نهوضها الاقتصادي. ولكن في النهاية لم ولن يكون بمقدور اردوغان او غيره العودة الى الوراء ، او التفكير باقامة الدولة الدينية.
ايران: بدأ المهتمون بالشأن الايراني يلمسون ان ايران الثورة العقائدية غير ايران الدولة بعلاقاتها ومصالحها. والثابت ان هذا التوجه هو قناعة القيادة في ايران اليوم. ويبدو ان الولايات المتحدة تريد توظيف هذا التوجه من خلال بوابة اطار التفاهم حول الملف النووي ، رغم كل ما يذاع وينشر في وسائل الاعلام. فواشنطن تسعى الى احتواء ايران بالدبلوماسية الناعمة ، وبالتالي طهران تريد تطبيع علاقاتها مع كافة الدول من اجل مصالحها. وربما تقودها هذه الرغبة لابراز الهوية القومية للدولة لتذليل كل المعيقات والحواجز التي يمكن ان تعترض طريق تقدمها كدولة صاعدة في المنطقة تعمل على الانفتاح على العالم. كذلك على الصعيد الاقليمي نرى ان لطهران طموحات ومصالح مهمة ، وهي تحاول تجاوز الخلافات الطائفية ، من اجل مشروعها ، لأن هناك من يسعى الى تقسيم المنطقة كلها على قاعدة طائفية وعرقية.
في النهاية اريد ان اقول في هذه العجالة ان مشروع اقامة الدول السياسية الدينية في في الدول العميقة بالمنطقة بدأ بالتراجع ، لأن الشعوب التي تقدمت ونجحت ونهضت عبر التاريخ ،هي التي قررت فصل الدين عن الدولة ، واوقفت توظيف قدسية الدين من اجل مكاسب سياسية والقفز على السلطة ، لأن الاديان ارقى واسمى.