لا يعيد التاريخ نفسه حتى في شكل هزلي (مع الاعتذار من الرفيق ماركس)، ولا يستطيع احد استنساخه او تمني بقاء مكونات وآليات حدث ما، كالحروب او الاستقلال او الاحتلال او المقاومة او التغيير، فلكل «حدث» ظروفه ومعادلاته، كما لكل «طبقة اجتماعية مصالحها الاجتماعية والاقتصادية، وخصوصا السياسية والثقافية، ما يستدعي بالضرورة قيام تحالفات جديدة وانهيار اخرى، وفق اصطفافات ومعادلات ليس بالضرورة ان تكون الصداقات او «العداوات» سبباً رئيساً فيها، رغم ان الحكمة تقتضي عدم إهمالها او الحط من شأنها.
مناسبة الحديث اننا أمام حدث يمني دراماتيكي جديد يستدعي في بعض تجلياته «التاريخية» قراءة مشهد ستينات القرن الماضي، وخصوصاً في 26 ايلول/ سبتمبر 1962 عندما قام عبدالله السلال الذي حمل رتبة المشير بعد ذلك تماماً كما كانت رتبة علي عبدالله صالح وتالياً عبدربه منصور هادي.
صحيح ان زعيم جماعة انصار الله عبدالملك الحوثي ليس هو عبدالله السلال، رغم انه يُسمى يوم سيطرة جماعته على صنعاء بـ(ثورة 21 سبتمبر)، وصحيح ايضاً أن ظروف الستينات الاقليمية والدولية لم تكن على هذه السيولة والخطورة التي هي عليه الان الاوضاع العربية والعالمية وبخاصة في شأن مقاومة الاستعمار والنهوض القومي وبروز حركات التحرر الوطني العربية التي قادت استقلال كثير من الدول العربية بدعم من مصر الناصرية وارتفاع منسوب النضال والوعي القومي لدى الشعوب العربية كافة، إلاّ انه صحيح ايضاً ان «التمزق» العربي هو السمة المشتركة بين تلك الفترة – التي كانت الآمال العربية القومية وخصوصاً الوحدوية مرتفعة ومفعمة بالتفاؤل والرضى – وبين ما نعيشه الان على مستوى الانظمة كما على مستوى الجماهير، من هبوط – بل تدني – في منسوب الوعي القومي وغلبة القُطْري على القومي، وبروز نزعات انعزالية عربية (دع عنك المذهبية والطائفية) تدير ظهرها لكل الجوامع والمشتركات القادرة على جمع شتات هذه الأمة والحؤول دون اندثارها او عودة الحقبة الاستعمارية «الجديدة» اليها، ولكن بآليات ومقاربات ودواع مختلفة تقف في مقدمتها دعوة العرب انفسهم للقوى الاستعمارية (نفسها)، كي تقوم بالدفاع عنهم او خوض الحروب نيابة عنهم او مشاركتهم غزوها والاصطفاف الى جانبها حتى لو كان ثمن ذلك تمزيق ما تبقى من نسيج قومي او انهيار آخر «مدماك» في ما كان يوصف ذات يوم كذباً ونفاقاً بالعمل العربي المشترك او مشروعات الوحدة التي لم تتحقق.
ما علينا..
في هذا الشهر–كما تم التوافق في قمة القاهرة في العام 2000 على ان يكون انعقادها دورياً في اذار – يُفترض ان تُعقد القمة العربية العتيدة, واحتمالات انعقادها تبدو غير مؤكدة, ليس فقط في غياب الحديث عنها حتى في اروقة الجامعة العربية المنوط بها توجيه الدعوات وإعداد جدول اعمال القمة، وفق ما يتمخض عنه الاجتماع وزراء الخارجية الذي يسبق اجتماع القمة بأيام معدودات, وانما ايضاً في فتور حماسة كثير من العواصم العربية ازاء اجتماع كهذا, تبدو فرص نجاحه معدومة واحتمالات بروز خلافات قد تفجّر القمة ببروز «محاور» واضحة قد تضع حداً لمؤسسة القمة وتجعلها مجرد ذكرى في التاريخ العربي, ناهيك عن تباين وجهات نظر عدد من الدول العربية إزاء مسألة «التمثيل» لدول عديدة، تتجسد الان في نموذجين صارخين، الاول النموذج الليبي حيث حكومة مُعترف بها دولياً (حتى لا نقول عربياً لأن العرب لم يحسموا امرهم) وهي حكومة طبرق برئاسة عبدالله الثني وحكومة طرابلس ذات التوجه الاخواني/ الداعشي برئاسة عمر الحاسي, اما الثالث فهو «طازج» والاضواء مسلطة عليه، حيث يحوز الرئيس «الراجع» عن استقالته «هادي»، على اعتراف عربي ودولي رغم «تحويله» مدينة عدن الى عاصمة مؤقتة بقرار فردي منه، وهناك سلطة اللجنة الثورة في صنعاء التي تُمسك بالمؤسسات كافة وذات نفوذ وحضور ميداني يصعب تجاوزه.
ثمة مِنْ الدول العربية مَنْ هي مع حكومة طُبرق في ليبيا وهناك من يرى في حكومة الحاسي (الطرابلسية) الممثل الشرعي بعد ان حكمت المحكمة العليا نتائج انتخاب مجلس النواب, ما يعني عودة المؤتمر الوطني العام, بل هناك من ارسل «بعثتين» دبلوماسيتين الى كل حكومة منهما (تونس) ما عكس حجم القلق الذي تعيشه حكومة تونس ازاء الاوضاع المتفجرة على حدودها الشرقية.
الحال مختلف في اليمن، بمعنى ليس هناك دولة تُفكّر بارسال «بعثتين» دبلوماسيتين الى صنعاء وعدن, بل ثمة مَنْ أبقى على سفارته في صنعاء كما هي, فيما بعض دول الخليج نقلت سفاراتها الى عدن في رسالة تستبطن موقفاً سياسياً واضحاً.
الى أين من هنا؟
صنعاء وعدن، كما طرابلس وبنغازي تستقطبان الاضواء, رغم كل الحرائق التي يشعلها داعش والدم الذي يسفكه والظلام الذي يحاول فرضه على المشهد الانساني والحضاري في المنطقة، والجامعة العربية تبدو مشلولة وعاجزة في هذه الظروف الكارثية التي يعيشها العرب، دولهم والشعوب. فهل هي آخر مراحل الانحطاط أم ثمة درك أسفل.. ينتظرنا؟