سمعنا عن استحداث وزارة للذكاء – طبعا ليس في بلادنا العربية – وانما في فنزويلا ، ولئن كان ذلك غريبا او مستغربا في نظر بعض الناس ، او كان بعيدا عن المالوف في الحياة الاجتماعية ؛ فانه ليس كذلك في الحياة السياسية ، فهذه الوزارة ليس استحداثها عبثا ،مع ما رافق هذه الفكرة من معارضة ؛ خشية ان تتحول إلى صورة من السخرية والاستهزاء بين الدول ، باعتبارها خطوة غير مسبوقة في العالم ولا عبر التاريخ.
لقد نجح رائدها "ماتشادو" كأول وزير فنزويلي للذكاء في العالم بتطبيق الفكرة على ارض الواقع ؛ فأن تكون ثمة وزارة للذكاء فذلك ليس بدعة او خرافة، وانما هي فكرة متقدمة مبدعة خلاقة ؛ لان اهدافها ومهامها وواجباتها لن تكون يسيرة ولا سهلة ،ولا بد ان تدرج انجازاتها على سلم الشرف والسمو والازدهار ؛ فالارتقاء بمعدلات مستويات ذكاء الناس وقياسها وتنميتها ورعايتها لكل الشرائح المجتمعية وطبقاتها ومستوياتها لا شك هو مشروع ضخم وعمل كبير رائع ، فتعليم الذكاء وانماء تفكير الافراد مختلفي المستويات، وبالتالي تطوير عقولهم لمما يقود إلى تطوير المجتمع كافة ، وسيؤدي ذلك بلا ريب إلى بناء عقول منهجية طالما افتقرت اليها امم كثيرة .
لقد ادرك قادة فنزويلا ان التقدم والتخلف قضيتان متضاربتان ؛ لكن جذورهما فكرية ، تتمحوران حول المنهجية واللامنهجية ، واذا ما اتيح للافراد تربية عقلية منهجية فانهم حتما سيعرفون طريقهم إلى التفكير الصائب جيدا ، فابتكار التقنيات حينئذ لن يكون عملا خارقا او مستحيلا لان التكنلوجيا او التقنية بكل مستوياتها وآلاتها وحركاتها وسكناتها ما هي الا ابداع العقول الممنهجة ، والتربية والتعليم هما مجال بناء هذه العقول ،واذا ما حققت التربية ذلك فانه يمكن عندئذ تقليص الفجوة بين التخلف والتقدم.
ان التربية والتعليم هما المجال الارحب الذي يجب ان يقبل كل الوان الفكر والتفكير ، وان الاهتمام بالقدرات العقلية للمتعلمين ،وتحسين عمل الذاكرة وزيادة قدرتها على استيعاب الامور والمسائل وتحليلها تحليلا منطقيا ؛ سوف يؤدي إلى النجاح في الحياة الاجتماعية وبناء العلاقات الشخصية الذكية ، والتميز والحضور وسرعة رد الفعل ،وسعة الافق في كل الامور التي تحدد مستوى الذكاء وتسهم في تقييمه بشكل كبير .
ومن المعروف ان اهم مقاييس التقدم والازدهار المعتمدة لدى دول العالم ، والتي تعطي انطباعا عاما ومؤشرا واضحا عن مدى تقدمها ،هي :-معدلات الامية ومعدل القراءة للفرد، وحجم سوق النشر ،وعدد الاختراعات والابداعات التي تسجل في السنة ،وعدد الجامعات، وعدد الابحاث السنوية المنشورة فيها ، وازدياد النفقة على التعليم والتفكير والصحة ، ومستوى النخب الشبابية المثقفة ومشاركتها ،لان المثقف العضوي المشارك في مجتمعه هو عنصر هام وفاعل في مجالات التنمية المستدامة.
لقد قيل ان مكانة المدارس والتعليم والتفكير والذكاء في البلد - اي بلد- هي مقياس درجة ارتقاء وانتصار او تخلف وهزيمة مجتمعاته ؛ فعندما هزمت اليابان روسيا في مطلع القرن الماضي، قال الجنرال الياباني:- لقد انتصر المعلم الياباني . وعندما سبق الصاروخ الروسي عام 1957 الصاروخ الامريكي، قال العالم الاميركي "كارل الندوفر: لقد انتصرت المدرسة الروسية على المدرسة الامريكية.
وابان محنة فرنسا في الحرب العالمية الثانية دعا الجنرال ديغول علماء التربية في بلاده لبناء تربية مستقبلية طموحة.
ان رعاية المواهب والتفوق والابداع غاية في الاهمية ، وهي من اهم واجبات الدولة ،فالموهوبون والمتفوقون والمبدعون في اي بلد هم ثروته الوطنية الحقيقية وهم رواده بالضرورة ،وطليعته لصناعة المستقبل فالمستقبل المشرق والمزدهر انما يصنعه الاذكياء والمبدعون عندما تسود العدالة الاجتماعية والحرية الفكرية، وان الامة التي تريد تحقيق سيادتها عليها ان تحقق استقلالها الفكري اولا ،وتتخلص من نير التبعية الثقافية والفكرية والعلمية الخطيرة فالاستعمار الثقافي والتبعية العلمية والتقنية تعني العبودية وهي اخطر انواع التبعيات والاستعمارات ،والدولة -اي دولة - مطالبة باستثمار مواهب ابنائها الذين سيسهمون في نموه واستقراره وامنه ورفاهيته وبناء مستقبله
كما ان الارتقاء بالتعليم والتفكير والابداع والذكاء اصبح مؤشرا من مؤشرات الامم السعيدة ،كما ورد في تقرير اسعد الشعوب، لمعهد الارض التابع لجامعة كولومبيا الامريكية؛ لانه يؤدي إلى الازدهار والتقدم والرقي. وان تعليم الذكاء والتفكير يعني تعليم مهارات التفكير الابداعي ،ومهارات استخدام عمليات العقل العليا في التعامل مع القضايا والمشكلات والمعلومات التي تصادفنا يوميا فلا يستطيع المرء ان يحصل على المعرفة الدقيقة وسبل استخدامها الا بعد ان يتعلم كيفية التفكير الصحيح فالذكاء كالنهر كلما ازداد عمقا قلت ضوضاؤه، ان الذكاء حق طبيعي لكل فرد ،وهو طريقة ناجحة في الحياة ،ويمكن تعليمه وتدريب جميع الناس عليه ، دون استثناء ،لان الانسان بفطرته لديه استعدادات لتعلم الذكاء، مثل اي مهارة اخرى.
انه في عصرنا هذا يمكن القول ان البقاء والغلبة للاذكى، وليس للاقوى كما كان يقال سابقا ، فالذكاء يقود للتميز والوصول إلى اقصى درجات الجودة والارتقاء والابداع ، وهذا من اهم اسباب البقاء في حلبة السباق الدولية. وان وزارة للذكاء في اي بلد ستكون في موقع خاص في العملية التنموية الفكرية ،ولا بد لها من ان تواكب حركات التجديد والتحديث ،وان تترجم شعارات التميز والتجديد والابداع إلى اساليب عمل وممارسة ، حتى تثبت وجودها وتلحق مجتمعاتها بركب التقدم العالمي فتجد لها على ساحته موقعا وعلى خريطته مساحة قال حكيم ياباني ( تعيش الشعوب على ثروات تحت اقدامها تنفذ بمرور الوقت بينما تعيش على ثروات فوق رؤوسها تعطيها بقدر ما تأخذ منها ) يعني ثروة العقل وثروات الذكاء والمواهب والقدرات الخلاقة.
الدكتور : شفيق علقم [email protected]