عندما كنت في مرحلة الدراسة الثانوية، كنت من أوائل المطالعة على مستوى محافظتي ،كنت أشترك في كل المسابقات المدرسية فقد كنت أعشق المطالعة، كنت أتنفسها وأحتسيها صباحا ومساءا مع كوب الحليب .كنت أسرق اللحظات لأقرأ كتابا واختلس النظر داخل صفحاته خلسة كي لا تراني والدتي وتقول بانني اتهرب من العمل، وازوّغ بالقراءة ، ما كانت حينها أمي تعلم أني متيّمة بالقراءة وأفديها بروحي.
عندما كنت أنهي عملي في المنزل كنت أسرع الى أمي كي تسمح لي الاعتكاف في حجرتي المشتركة مع أخواتي لأقرأ، وأتلذذ، وأستمتع بما أقرأ. تلك كانت متعتي وهوايتي وحياتي، في زمن كانت القراءة فيه تصنف ضمن مضيعة الوقت والهروب من الدراسة، وما كانت الا نوعا من الثقافة العميقة التي تترسخ في العقول كما تترسخ الجذور في الارض .
كنت عندما أستعير الكتاب من مكتبة المدرسة؛ تمتد فترة الاعارة أسبوعا كاملا ولكنني ما كنت أتجاوز اليوم الثاني والكتاب في حوزتي.أما عن الحصص التي كانت تتغيب فيها المعلمة عن الحضور، كنت أستغلها في الذهاب الى المكتبة لقراءة كتاب لفت انتباهي فيها.
حتى عندما انهيت الدراسة المدرسية والتحقت بالدراسة الجامعية كنت أستعير من مكتبة الكلية أو من إحدى الزميلات التي حالفها الحظ وكان لديهم في المنزل مكتبة .كم كنت أتمنى لو أتخرج وأعمل لاشتري كتبا وأكوّن في بيتي المستقبلي مكتبة ليحظى أولادي بما لم أحظ به فيفتحون عيونهم على مكتبة داخل جدران بيتهم ومملكتهم مكتبة ملكهم الخاص.
وفعلا تابعت مشواري الجامعي بتفوق وتخرجت وتزوجت وبدأت بمشوار حلمت به طيلة سنوات حياتي الا وهو شراء الكتب ومتابعة أخبار معارض الكتب وكل ما له علاقة بالكتب ،كلما سمعت عن اعلان في التلفاز أو من أحدى الصديقات أتوجه لاشترى كتبا كثيرة كثيرة من راتب كان يعتبر قليل. ولكن كانت الوجهة الوحيدة التي لا يزعجني صرف المال فيها هي شراء الكتب.
وفعلا في أقل من سنة كان لدي مكتبة متواضعة بدأت أحضرها لأولادي قبل ولادتهم،ومع توالي السنون كبرت المكتبة وكبر الاولاد الذين زرعت فيهم حب القراءة منذ الصغر، وشوّقتهم للقراءة وللبحث عن كل جديد من القصص وكتب المغامرات وكنت قدوتهم حيث كنت أتركهم يختارون كتبهم وأختار أمامهم كتابا أقرأه وكانت عادة القراءة عندي في المنزل في العقد الاول من سنين حياتي عادة متأصلة حيث كل يوم وجب علي قبل النوم قراءة كتابا أو أثنين مع ترغيب أولادي وحثهم على القراءة.
اليوم وبعد أن كبرت مكتبتي وتضاعف عدد الكتب فيها؛ أراها مهملة ومتروكة فأين مكتبتي التي كوّنتها بأحلامي وإصراري ؟ وأين روادها؟ فقد أنشأت ثلاثة أولاد على حب القراءة واليوم أنا ضعيفة وغير قادرة أن أسقى أولادي الصغار من هذا الينبوع العذب الذي طالما نهلنا منه المعرفة والتسلية والثقافة .
اليوم أقف عاجزة أما جيل الانترنت والثقافة السريعة ، لفت انتباهي بالامس أحد ابنائي الصغار في الصف السادس من جيل الانترنت عندما طلب مني معلومات لمعلمته عن البتراء فذهبت فرحة وأحضرت له كتابا عن الاردن والمواقع السياحية فيها,فوجئت بنظرة رمقني بها ابني عندما قال لي:لا يا أمي سابحث عن المعلومة على الانترنت لماذا التعب. فاجئني جوابه كنت بالماضي مع إخوته الثلاثة ادعوهم للقراءة والمطالعة وشحذ المعلومة من الكتاب واليوم أبنائي الصغار يرفضوا مسك الكتب إلا للدراسة ويستعيضوا عنها بالحاسوب والانترنت والبلاستيشن والالعاب الاكترونية التي أخذت منهم كل الوقت وتركتهم بلا ثقافة ورقية . حتى أبنائي الثلاثة الكبار هجروا مكتبتي ولم تعد مقصدهم وباتت كالمنفي في ركن مقصي من الدنيا كلها .
هذه المكتبة ماذا أفعل بها؟ وهذه الكتب والذخيرة التي كانت ولا تزال حلمي كيف أتصرف بها .في يوم من الايام كان جُلّ حلمي ان أمتلك مكتبة أقرأ وأتزود منها وأجعلها كنزا أضعه بين يدي أولادي ينهلون فيه من العلم والمعرفة والثقافة متى شاؤوا. كنت أتخيل انني سأضع الدنيا بين يديّ أولادي، عندما أضع بين أيديهم مكتبة كبيرة وعظيمة كمكتبتي ، كل هذا بات حلم، كما كان في يوم من الايام حلمي ان اقتني في بيت أهلي مكتبة، بات اليوم حلمي أن ينظر أبنائي الى مكتبتي بنظرة حب وعشق مثلي.
ولكن عبثا أحاول؛ عشت بحلم وسانتهي بحلم . اليوم سأعلن حداد الكتب والمكتبات على زوارها فاليوم وفي هذا العصر انتحرت الاوراق والكتب ازاء المطالعة الاكترونية على صفحات الفيس بوك أو المواقع الالكترونية الاخرى. رحم الله يوما كانت المطالعة فيه دليل رقيّ الامم ونهضة الحضارات مقارنة مع زمن باتت فيه المطالعة والكتاب دليل تخلف حضاري وتكنلوجي غير متداول أو متعارف عليه بين الناس .
اذا فليعش جيل الانترنت وليرحم الله كتبي ومكتبتي فلا وجود لها اليوم الا في خيالي وداخل أسوار نفسي الاسيرة للقراءة والمطالعة اليوم ومدى العمر.