كان يوماً ليس ككل الأيام، فقد كان أول يوم أصبح فيه العقل ينظر إلى إحتمالات لم تخطر بباله من قبل، فقد كان يوماً حمل في النفس هزيمة تعادل هزيمة أحمد عرابي في موقعة التل الكبير، والتي حدثت في ذات اليوم من العام 1882م، وتسببت في الغزو البريطاني لمصر وبداية إحتلالها لها طوال 72 عاماً، تماماً كما سبب هذا اليوم إحتلال الأحزان وغزوها لجميع مرافق الجسد ليرافقنا ما بقي من عمرنا من لحظات وأيام.
ذلك اليوم الذي اندلعت فيه أكبر معارك الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م في مدينة القدس الشريف، إثر احتلال الجيش البريطاني لمخفر البراق في المدينة، تماماً كما إندلعت فيه معارك المغالبة بين الأحزان والأفراح في ساحاتنا ما بقي فينا من العمر.
اليوم الذي أقيمت فيه في العام 1955م العلاقات الدبلوماسية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية بين ألمانيا الغربية والاتحاد السوفيتي، تماماً كما أقيمت فيه العلاقات الدبلوماسية لأول مرة بين الأحزان والأفراح في حياتنا، ليترافقا بهدوء وتظللهما الأشواق من كل جانب.
وهو اليوم نفسه الذي حملنا فيه على ظهورنا من الذكرى ما كان أثقل مما حمله ذات اليوم من العام 1940م من ذكرى فقدان الأدب العربي للأديب والشاعر اللبناني الكبير أمين الريحاني، صاحب زنبقة الغور، وملوك العرب، وسجل التوبة، وأنتم الشعراء، ووفاء الزمن.
ذلك اليوم الذي صنف في العالم باليوم العالمي للقانون، وصنف في قلبنا باليوم العالمي لقانون الأحزان والأشواق والتصميم والتحدي،ذلك هو يوم الثالث عشر من أيلول سبتمبر، اليوم العالمي للقانون، لكنه كان قانوناً ليس بقساوة أي قانون في ذلك اليوم من العام 2005م، فقد كان اليوم الذي رفعت فيه القلوب وجفت فيه من العيون الدموع.
قانون فراق هذه الحياة، ومفارقة أحباب القلب، من سكنوا الروح والفكر طوال سنين العمر، من كانت قبلة على جبينهم تمنح أرواحنا كل إبتسامات وأفراح الدنيا، ومن كانت قبلة على كفهم الطاهر تلون الدنيا بعيوننا بكل ألوان قوس القزح، ومن كان وجودنا بجانبهم يغنينا عن العالم بأسره إذا ما تسربت الإبتسامة إلى شفاههم. ثمانية أعوام مرت على رحيلكم يا والدتي الغالية، وبرغم ذلك مازلنا نتذكر تلك اللحظة كأنها الآن
عندما وصلتنا رسالة الوالد رحمه الله تخبرنا بما كنا نتوقع ولا نريد أن نصدق، بأن ساكنة الروح قد سلمت الأمانة إلى بارئها ورحلت، هناك في بلاد الصين البعيدة، ومازلنا نتذكر تلك اللحظات التي تطلبت منا ثباتاً كالصخر أمام شقيقات الروح الخمسة لإبلاغهم بفراق المدرسة التي تعلمنا فيها محبة الآخرين، وطيب الأخلاق، وسمو الروح، وتحدي الصعاب.
مازالت الذاكرة تحمل تلك الذكريات وتسير بها، ذلك اليوم عندما كنا نريد الذهاب إلى الجامعة، وكان هناك من ينتظرنا متوعداً التهجم علينا، لتمسكنا يد حنان الأم راجية أن نبتعد عن هؤلاء، وتسألنا ماذا سنفعل؟ عندما كان جوابنا للوالدة الغالية بأن منهجنا كان وسيبقى أوامر خالقنا عزوجل، "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"، "وإدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"، وكيف كان رد الوالدة يومها الجملة التي لطالما أحببنا سماعها: إذهب يا ولدي رضي الله عنك. ونعود اليوم لنطمئنك يا أماه، فسيبقى هذا منهاجنا ما حيينا، وسنبقى عليه ثابتين ثبات الصخور، لا تغيرنا كل الإساءات أو أمواج هذه الدنيا العاتية.
سنبقى نواسي أنفسنا بتلك الذكريات الجميلة، وستبقى كلماتكم مصابيح تضئ لنا طريقنا باذن الله تعالى إذا ما أظلمت علينا الطريق، وسيبقى ذلك أكبر حافز لنا لنردد رجائنا لخالقنا عزوجل أن يجدد اللقاء بك وبالوالد الحبيب رحمه الله، بحضرة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وكافة الأحباب في الفردوس الأعلى، لا لشئ إلا أن نطبع قبلة على جبهتكم الطاهرة التي لطالما تعبت من أجلنا، وكفكم الذي طالما إمتد لتوفير كل الراحة لنا، ولكننا نرجوك يا أماه أن تبتسمي لحظتها وتسمعينا جملة "رضي الله عنك" التي تمزقت الروح إشتياقاً إليها ولإبتسامتك الجميلة.
لطالما كتبنا من السطور لك يا والدتنا في حياتك وبعد رحيلك، لكن هذه السطور ليست كالتي قبلها، أتدرين لماذا يا أمي؟ لأن السطور إختلفت بعد أن رأينا رفيقة دربنا أم الوليد التي تمنت أن تراك ولو للحظة، ومعاناتها في قدوم أول حفيد لك زين الله به دنيانا، وكأننا نرى في عينيه من الشوق لرؤيتك، ما كنا نراه في عينيك من الأشواق لرؤية حفيدك يوما ما قبل أن ترحلي.
رأينا كل ذلك وتذكرنا كم من الشهور بقينا في رحمك وأنتي تعانين الآلام في حمل إبنك الوحيد إلى هذه الدنيا، ولذلك سيكون هذا الإبن الوحيد هو من يذكرك دائماً بأجمل الكلمات والدعوات ما بقي له نفس في هذه الحياة. ستبقين التاج الذي نحمله فوق رؤوسنا ونسير به ما حيينا، ونوصي به كل من يملك مثله أن لا يفرط به لا في حياته ولا بعد رحيله.
ستبقين ساكنة الروح والقلب، رفيقة الأشواق والذكريات، وتاج القلوب وسيدتها، لا تقلقي يا غاليتنا فما زلنا وسنبقى دائماً على العهد، ندعو بالرحمة والمغفرة لروحك التي بذلت كل شئ من أجلنا، ندعو لها بكل الخير فوق كل أرض وتحت كل سماء، ومع إشراقة كل صباح أو إطلالة أستار كل مساء لن ننسى أبداً تلك اللحظات الجميلة التي طالما جلسنا فيها معاً، سهرنا معاً، تبادلنا الضحكات فيها معاً، وتناقشنا فيها فيما هو فائت أو آت، لنعود ونكررها اليوم وكل يوم إلى أن نسلم الروح إلى بارئها، كفانا من دنيانا بأنك لنا أم، وكفانا بأنك لنا أم فخراً.