تشير تطورات الاحداث في مصر في ظل اختطاف الشرعية ، وتزايد الضحايا يوميا بين المدنيين قتلى و جرحى ، واطلاق النار المتعمد ، وتواتر الهجمات على انصار مرسي ، واستمرار الانقلابيون باراقة الدماء في الازمة التي يواجهونها ، واستمرار احتجاز الرئيس الشرعي السابق ، او اختطافه إلى مكان مجهول ، بما يحمله ذلك من اثارة وشد وتوتر ومخاطر جمة ، رغم دعوات دول كثيرة منها الولايات المتحدة الاميركية ، وخارجيات الدول الاوروبية ،ومنظمات عالمية للافراج عنه
كما ان استمرار الاعتقالات بدوافع سياسية ، وبدون سند قانوني ،وتولي الجيش زمام الامور السياسية ، والمزيد من التصعيدات ربما إلى حالة عصيان مدني في غياب حل سياسي ، وتعطيل تطبيق الديمقراطية الانتخابية والعدالة الاجتماعية ،وتراجعهما ،وتزايد المظاهرات الحاشدة في جميع الميادين والمحافظات ،واستمرار مليونيات عودة مرسي، وعدم وجود مجال لتحقيق الوفاق الوطني ، وصراع المليونيات الشعبية
وفي ظل غوغائية الاعلام ودوره وتفننه في صنع بطولات خيالية وهمية للجيش ، والركوع لرجال الاعمال ، حتى اصبح هذا الاعلام يؤجج الصدور، ويثر الكوامن ، فغدا جزءا لا يتجزأ من المشكلة ،رغم السلمية الحضارية الصارمة، والمدنية الكاملة، ومبدأ اللاعنف ، الذي اختطته ورفعته ثورات الاغلبية الشرعية شعارا لها ، وصمودها الاسطوري ،وصبرها الفائق ، ونفسها الطويل حيال ما يفعله الانقلابيون ، ورغم التعتيم الاعلامي وتزويره وتزييفه المحترف للمواقف ، وقلب الحقائق في كثير من الحالات ،مما جعل الجماعات الاسلامية تكفر بكل ادوات الديمقراطية والتعددية والتشاركية
كما ان تصاعد المواجهات والمهاترات السياسية، وحفلات الشتائم بين كثير من السياسيين ، والخلافات العميقة بين جماعة الاخوان المسلمين - كنواة صلبة في المجتمع المصري – وبين احزاب المعارضة ، لمما زاد في تصاعد قوة الاحتجاجات الشعبية التي ضمت جميع اطياف الشعب المصري، ولم تقتصر على الاسلاميين وحدهم كما يتم تصويره.
ان توجهات تحالف رؤوس الاموال المؤيدة للعسكر ، والتي دعمت الانقلابيين ماليا وماديا ومعنويا ،وتوجهات الفريق السيسي ومناصريه واعوانه للتحضير لعمليات حرب اهلية رهيبة ، كدعوته المصريين للاحتشاد في الساحات والميادين ، لسلب موافقتهم وتفويضهم له لخوض الحرب الذي بدأ يسميها "بالحرب على الارهاب" والعنف الداخلي ، كما اراد ذلك مخططوها وراسموا سيناريوهاتها من الامريكان والاسرائيليين وبعض عرب الخليج، سيدفع مصر عبر نفق حالك مظلم.
ومن جانب اخر؛ فان تزايد انتقادات القوى السياسية المصرية للحكومة الجديدة برئاسة حازم الببلاوي، واستئثارها بالسلطة بالاشتراك مع العسكريين ،وعناصر تنتمي لعهد مبارك المخلوع ، هذه الاشارات التي تفيد بانها حكومة مسيسة، وغير محايدة وبلا صلاحيات، تمثل مزيجا من تيار سياسي واحد، وبعض فلول مبارك ، وبعض العسكريين ؛ ذلك مما يشرخ صف الانقلابيين ويزيد في انقساماتهم ،ويقلب اوجاعهم وآلامهم ، ويؤدي إلى زيادة التشتت وعدم الاستقرار.
ان هذه الحرب التي اعلنت الرئاسة المصرية مؤخرا عن بدئها باسم الحرب على الارهاب الداخلي، لو اشتعل اوارها حقا ؛ فان خسائرها ستكون طامة عامة شاملة ، وستأكل نارها روح ثورة 25 يناير للحقوق المدنية والسياسية ، وستطيح بالواقع الامني والسياسي والاقتصادي المصري ، وسيترك الانقسام الدموي مصر بعد انقسامها السياسي نهبا للاطماع الدولية والاقليمية ، وتقسيمها إلى دويلات طائفية وعرقية ، وسيهرب رأس المال الذي انهال على الانقلابيين، واغدق عليهم لتغطية فاتورة تنفيذ هذه الحرب القذرة ، والمواجهة الملعونة بين اطياف الشعب الواحد.
ان الاستئثار الذي اسس له لهزيمة الاسلاميين لا مشاركتهم، وهدم جميع قنوات التواصل والاتصال وجسورها معهم ، وغياب روح المصالحة الحقيقية ،كل ذلك يدفع القوة الشعبية السلمية في رابعة العدوية والنهضة وكل ميادين مصر وشوارعها التي تنادي بالشرعية إلى الايمان الاكيد بان لا خيار لهم عن التقدم بكفاحهم المدني ؛لانتزاع المسار السياسي لثورة 25 يناير مرة اخرى، لكن سيناريو الحرب الذي يبرز الان ويطفو على السطح اكثر من اي وقت مضى ،والذي يؤجج له السيسي ومعاونوه ، وهو ما يثلج اعداء مصر الحقيقيين في الداخل والخارج
فقد صرح شمعون بيريز : بان اسرائيل ستدفع الثمن غاليا في حال فشل الانقلابيين على مرسي، كما اعلنت بعض الدوائر الاسرائيلية ان السيسي بطل فعلي لها، ذلك لانه يطمئنها بان قوة قرار الاستقلال السيادي الديموقراطي في مصر، والذي كان مصدر قلق لها قد حوصر وخبا ضوؤه، مما يوفر الاستقرار النسبي على حدودها الجنوبية المزعومة مع غزة، كما ان صعود الاسلاميين في مصر كان اقلق اعداءا عربا اخرين ؛ لانه من وجهة نظرهم
فان الاسلام السياسي الذي كانوا يخشونه في مصر ، هو اشد خطرا عليهم من كل من اسرائيل وايران؛ لذلك كان المطبخ السياسي العربي الاميركي الاسرائيلي يعد الطبخ على نار هادئة منذ مدة غير وجيزة؛ لمحاربة الاسلام السياسي ،وروح المقاومة فيه؛ حيث كشفت مصادر بان رئيس الموساد الاسرائيلي زار فعلا دولة الامارات العربية
وقد انصبت زيارته على استكمال التحضيرات لتنفيذ الانقلاب العسكري الذي قاده ونفذه السيسي واعوانه . ان بعض دول الخليج لم تكن راضية عن الديمقراطية الجديدة في مصر؛ لذلك كانت عاملا مساعدا ومؤثرا داعما بالمال والاعداد والتخطيط ، اذ تسلمت من اسيادها في واشنطن مخططا خليجيا يرسم لانهيار الديمقراطية الاسلامية في مصر بمشاركة اسرائيلية ؛ حتى لا تكون هناك حالة ديمقراطية مستقبلية في المنطقة ،كما ان الموقف الاميركي من هذه الازمة الذي اعلن على لسان المتحدثة باسم خارجيتها ، وموقفها من القوى الاسلامية التي وصلت سدة الحكم عبر انتخابات مشهود لها بالنزاهة كان يمتاز بالالتباس والتريث ، وهو نوع من السياسة الاميركية الخبيثة التي تجيدها وتتبعها في كثير من الاحيان.
فمشاريع سلطة النخبة الاميركية التي تجلس في قمة الهرم، والتي تصنع القرارات وتدير المؤسسة العسكرية الاميركية، تسيطر على الشعوب وخيراتها باساليبها الملتوية المعتمدة على الاحتواء وعمليات غسل الادمغة ، وان من مشاريعها قيد التنفيذ تفتيت وتجزأة العالم العربي والاسلامي بدعوى الارهاب، واسقاط كل حاكم ولو كان منتخبا عبر الصناديق، لا يتماشى مع سياستها او لا يأتمر بامرها، وذلك لتبقى امور هذه البلاد في ايديها ، ورهن اشارتها في التبعية والانقياد ، ورهن ارادتها ،ومتمشية مع مفاهيمها ، حتى يكون الكيان الصهيوني هو السيد المطاع في المنطقة العربية والاسلامية
وبالتالي فان هدفهم الاكبر هو تخليص الشعوب الاسلامية من معتقداتها الاسلامية وقيمها وتراثها بواسطة حكام موالين لهم ، ولذلك رأوا انه يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية والعقائدية والعصبيات القبلية والطائفية فيها ، لقد اعتمدت الولايات المتحدة الامريكية لسياستها المستقبلية في مصر ،المشروع الذي وضعه اليهودي (برنارد لويس) لتقسيم البلاد العربية والاسلامية، وتفكيك وحدتها الدستورية ، اذ قد وافق الكونجرس الاميركي بالاجماع في جلسة سرية على مشروع برنارد لويس واعتماده وادراجه في ملفات السياسة الاميركية الاستراتيجية لسنوات مقبلة، والان وقد حان وقت تنفيذه في مصر، بحيث يتم افشال نظرية الاسلام السياسي اولا، ثم يبدأوا بتنفيذ مشروعهم، تقسيم مصر إلى اربع دويلات
ان ما يحدث في مصر اليوم يتعلق بمستقبل المنطقة كلها ويتحدد ذلك في مآلات الحالة المصرية الراهنة وما ستسفر عنه من نتائج، كما ان معطيات هذه الحرب القذرة لو بدأت حقا - ولا اخال انها بعيدة - ليست مضمونة العواقب من وجهة النظر الامريكية على الاقل ؛ ذلك لان مصر قد تتحول إلى بؤرة استقطاب عسكري جهادي يطيح بحسابات الاستقرار الاقتصادي والسياسي فيها ، لان هذه الحرب ستبدأ بضخ بشري في حركة الجهاد الاسلامي المصرية
وربما تدخل القاعدة من خلفها والمنظمات الجهادية الاخرى ساحة النزال والكفاح ، فيتم فتح بؤر جهادية في كل المناطق ابتداء من سيناء، مما يخلق حالة من القلق والتوتر لدى الامن الاسرائيلي ، او باستهداف المصالح الاميركية الكثيرة في المنطقة ومواطنين اميركيين وغربيين وهم في المنطقة كثر
ان زيادة الغضب الشعبي الثوري وتحوله إلى براكين عابرة للحدود ليشمل المنطقة كلها لمواجهة اميركا وانظمتها الحليفة في العالمين العربي والاسلامي وبخاصة منطقة الخليج ذات المصدر الهام للطاقة والجغرافيا الهامة والحيوية التي تحتاجها اميركا والغرب عامة ذلك ما تخشاه اميركا من الحسم الدموي في الحالة المصرية ؛ ولذلك هي تعلن عن تريثها رغم ان وشنطون لم تضع لذلك حسابا كبيرا الا انه سيقطع كل المشاريع والمخططات او يؤجلها إلى اجل بعيد ، ويعيد حسابات الشرق والغرب التي تلتقي لتصفير حسابات العالمين العربي والاسلامي .
ان مصر وطن جميل يغرق في ازمات جمة حادة، وامراض مزمنة خطيرة مستعصية ، وشعب انهكه ثالوث الفقر والمرض والجوع، فغدا هذا الوطن الطيب مفخخا وعلى وشك الانفجار، وذلك بسبب انهيار حالة الثقة بين اطيافه وفصائله السياسية والحكومة الجديدة والعسكر ، وقد يتحول المشهد السياسي المتأزم إلى حالات من العنف والتخريب والقتل والدمار كما في سوريا الآن ،وستدخل مصر في انفاق حرب اهلية مظلمة تحرق الاخضر واليابس ،وينهار الوطن الجميل ويفيض النيل العذب دماء عزيزة ، فهل تؤول مصر إلى وطن يحترق بازماته واشتعال المواقف وتعقيدها ، بالغموض الذي يلف كل شيء فيه
ان حكم العسكر يهدد القيم السياسية الليبرالية، كما ان عودة وجوه الحرس القديم التي ترتبط في معظمها بعهد الرئيس المخلوع مبارك ،والجنرالات الذين كانوا يتمتعون بالسلطة الكاملة ؛ سيزيد اوار هذه الحرب ويؤجج نارها
كما ان خوف خلية الانقلابيين الكبير في ظل غياب حل حقيقي لارضاء ضباط النخبة في الجيش المصري والصفوف العليا ، يشعل المواقف والصراعات داخل المؤسسة العسكرية ، وبالتالي شرذمة مجموعة الانقلابيين ، فثمة نخبة من ضباط الحرس الجمهوري وقيادة الجيش الثاني والثالث، لا تزال ترفض الاجتماع مع السيسي حتى الان ؛ مما يثير الانقسامات فيما بين العسكر ويعمقها .
فماذا يجني او يستفيد المصريون عامة وعلى اختلاف اطيافهم السياسية والعقائدية من سقوطهم جميعا في اتون حرب لا تبقي ولا تذر، ان مصر على وشك الانفجار والانهيار السياسي والاقتصادي، فاين العقلاء من ابنائها واين شيوخها ؟ واين اصحاب الرأي واصحاب الحل الربط من رجالاتها ؟ واين ذوي الحجى من مفكريها؟ الدكتور : شفيق علقم