إن الضجة التي أعقبت (التصريحات المنسوبة) إلى جلالة الملك، كانت وما زالت أكبر من حجم ديناصورات "العصر الجوارسي".
لقد تفاعل البعض مع تلك التصريحات، بطريقة واعية لم تخف على أصحاب المنهج العقلي والموضوعي، بأنها كانت تفاعلات تأملية - ولا أقول تبريرية - ذهبت إلى أبعد من اللحظة الراهنة، فقد توغلت في أعماق التاريخ الحديث والمعاصر، متتبعة لغة خطاب العائلة الهاشمية، التي حكمت الأردن وصولا إلى حقبة الملك عبدالله الثاني.
أصحاب هذه الطريقة التأملية، فرضتها طبيعة وشكل التصريحات المنسوبة لجلالته، فالتصريحات جاءت وليدة نوع من أنواع الكتابة الصحفية، تقوم على تدوين السيرة الذاتية المختصرة لشخصية من الشخصيات، من خلال التعايش معها ومحاورتها، ويسمى هذا النوع بـ (بروفايل)، وبالتالي يتداخل في طريقة كتابتها أو تدوينها، عدة أساليب منها: الشخصي، أو الإنطباعي، أو التقديري، أو التلفيقي.. متداخلة مع العلمي، أو الموضوعي، أو الإستقرائي، أو الواقعي.. من خلال تلك القراءة النقدية الواعية للتصريحات، اهتدى أصحابها – بعيدا عن التطبيل والتسحيج – إلى ضرورة التأني في التحليل، بخاصة إذا كانت اللغة التي صدرت عن الملك، لغة غير معهودة لا في قاموس سلطته ولا في قواميس سلطة والده وأجداده
وعنينا بغير معهودة أي أنها لغة عالية النبرة في الجرأة، مكسرة كل كلاسيكيات الخطابات الملكية، وقواعد الدبلوماسية عبر عقود خلت،بناء على ما سبق، فقد نجح أصحاب المنهج العقلي في التحليل إلى حد كبير في التعامل مع التصريحات الملكية الغائبة أو المغيبة، عن طريق تأملها – كما أسلفنا سابقاً – اذ أن نصوص التصريحات الأصلية غير موجودة أصلا، حتى لو اكتظت الصحف بمقتطفات منها – العربية والأجنبية –
وبالتالي من حقهم أن يتساءلوا: هل الاقتباسات التي امتلأت بها الصحف تمثل حقيقة ما جرى على لسان الملك؟ وبلغة الجدل حتى لو كانت تمثل ذلك، فإن لأصحاب المنهج العقلي، كل الحق في الشك بصحة تلك التسريبات، ما دام لم يتم إذاعة تلك التصريحات أو نشر تلك التسجيلات بنسختها الأصلية.
أما البعض الآخر، فقد تعامل مع تلك التصريحات بطريقة لا واعية، وبطريقة سماعية انفعالية، كثير من أصحاب هذه الطريقة، سرعان ما دبجوا مقالات، وكتابات، وتصريحات، ارتقت بامتياز إلى عنق الحقيقة الغائبة، سادرة في غياهب التحليل، وبالتالي بنت غياباً على الغياب، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث، والإستقصاء، أو حتى التحلي بفضيلتي الصبر والتروي.
أصحاب الطريقة السماعية، بعضهم كان مدفوعاً في انفعالاته، بناء على آراء وتوجهات الذين اندفعوا قبله، فأخذ يردد ما يرددون، ويكتب ما يكتبون، زاعماً أنه يقول الحقيقة، وبالتالي ينطبق عليه القول: لا يدري بأنه لا يدري.
وقسم آخر تهافت إلى أبواب التحليل انسياقاً وراء خلق جماهيرية موهومة، دون أن يمتلك أداة واحدة من أدوات النقد، ولذا ينطبق عليه القول: يدري بأنه لا يدري...والقسم الأخير منهم، حمّل التسريبات ما لم تحتمل؛ بغرض التجييش، وتحقيق مآرب شخصية أو حزبية، وبغرض ايجاد مقعد له في مقاعد الفتنة، والعزف على أوتار وطنية، لا تلد إلا نشازاً، لا يطرب له إلا صناع الفوضى، وأصحاب ركوب الموجات العاتية، ودعاة امتطاء الديناصورات في "العصر الطباشيري"
ولذا ينطبق على كل واحد منهم القول: يدري بأنه يدري. بالطبع إن القسم الأخير، هو أخطر تلك الأقسام قاطبة؛ لأن عنجهية هذا القسم لن تتخلى عن نهجها، ولا عن طريقتها، حتى لو فَضَحتْ نواياهم الحقائقُ الدامغة، إذ أن لديهم قدرة هائلة على تزييف الوعي، وبنادق حاذقة تم اقتناؤها؛ لاغتيال الحقائق ومصادرتها. بقي أن نقول بهذا الصدد، بأنه رغم اكتساح موجات تلك الأقسام للساحات القومية، والوطنية، والدينية لفترات محدودة –وإن طالت لبعض الوقت – فإن موجة أصحاب العقلانية ستظل هي المهيمنة في نهاية المطاف
ومع ذلك فإنه ما بين تزييف الوعي، ووعي التزييف، يصر البعض على أن يظل الوطن، غارقا في لغة النزيف...على نهج أصحاب الطريقة التأملية نتساءل: هل التصريحات المنسوبة للملك عَرّت الكثير من تناقضات رموز أسياد الخطاب؟ عندما استخدم الملك لفظ (الديناصورات)، سارع كثيرون إلى لَيّ عنق السياق نحو العشائر، مرتكبين بكل تهور مغالطات تعميمية ايهامية؛ لشد أنظار الناس إلى فداحة خطأ الملك، وبأنه قد وقع في دائرة (التابو) منتهكاً كل الخطوط الحمراء... وهنا بالطبع لم يعجزوا عن تفصيل عباءة (نكران الجميل) وإلباسها لجلالته في حفل شتمائي مهيب، رُصد ريعه لصالح خزينة أجنداتهم المشبوهة.
على الرغم أن سهام الملك لم تكن موجهة إلى نحور العشائر، ككيان اجتماعي لطالما كان عصاة بيد الهاشميين، يهشون بها على أي خوف يتربص بعرشهم، وإنما كانت سهامه موجهة إلى أفراد بعض تلك العشائر، أو فرد في عشيرة معينة في حزب معين، ما زالوا يلعبون دور الصنم في الوقت الذي قررت فيه الدولة أن تحج نحو المدنية، بكل ما يحمل هذا المفهوم من معنى.
إن التناقض الفج الذي وقع فيه هؤلاء، هو أنهم لطالما انتقدوا العائلة الحاكمة على الإتكاء على العشائرية في دعم حكمها بحيث – وذلك من وجهة نظرهم – أصبحت العشيرة هي التي تحظى بنصيب الأسد في الوظائف العامة، وكذلك الخاصة، إضافة إلى امتياز سهولة التواصل مع القصر الملكي، دون حواجز أو أية صعوبات تُذكر.
إن السهم الملكي كان مسدداً إلى نحر الصنمية، وإلى كل من يتغنى بها أينما وجد، وهذه الصرخة لم تكن حكرا على الملك، وإنما هناك كثير من رموز وأفراد العشائر، رفعوا أصواتهم قبله، مطالبين بأن تتبنى الدولة مفاهيم المدنية والحداثة ليس فقط على صعيد النظرية، وانما العمل على تجذير تلك المفاهيم في أذهان الناس؛ لتحويلها إلى ممارسة وأسلوب حياة.
فسبحان من حول هؤلاء من أعداء للعشيرة (ككيان) متنفذ – من وجهة نظرهم – حاصد للإمتيازات، إلى منافحين شرسين عنها بين طَرْفة عين وانتباهتها !!
وأما فيما يتعلق بمناداة الملك، بضرورة تمثيل المكون الفسلطيني في البرلمان وفي مؤسسات الدولة، فإن عدداً كبيراً من الناس اعترتهم الدهشة، عندما اعترض (هؤلاء) على ذلك التمثيل!! فهم أشبه ما يكونوا بذلك الشخص الذي بدأ العد بهذه الطريقة: 1،2،3، 10 !! هؤلاء يريدون القفز عن هذا المكوّن؛ بحجة أن هذا المكوّن يؤسس لذلك المفهوم المُفتعل (الوطن البديل) متناسين أن هذا المكون له حضور عددي، واقتصادي، وثقافي، واجتماعي، ووطني، والأهم من ذلك كله بأن لبنات هذا الوطن، ما زالت تخط فوق ظهورهم وأكتافهم (قصة البناء) وحكاية التأسيس، يداً بيد مع إخوتهم الشرق أردنيين مرددين معاً: أنشودة الوطن والبناء.
ولكن للأسف لقد حول (هؤلاء) قصة الوطن البديل، إلى (علكة) في أفواههم لم تورثهم، إلا عقماً في الرؤية والمنهج... ففزاعة الوطن البديل، لا يؤمن بها ولا ينادي بها إلا الحاقدون، والشانئون، والراقصون في محافل (الماسونية)، ومحافل (الدونية).
وإلى كل من ينادي بالوطن البديل (أيا كان)، نقول صراحة دون أدنى مواربة: احزم حقائبك وارحل إلى الجحيم... هؤلاء يريدون لجلالة الملك (الأب) أن يُقصي الأبناء الذين رضعوا من ثدي واحد، عن مائدة الوطن محولين جلالتيهما إلى عاشقين مغامرين، فوق شرفات (الوطن البديل) أفلا يخجلون؟!!
إن الشعب أصبح مدركاً – أكثر من أي وقت مضى – بأن صرخة (الملك الثائر) هي ثورة نقية في وجه أعداء المدنية والتحضر، وفي وجه آكلي (عجلات الإصلاح) وفي وجه أصحاب الوجوه المبرقعة والمقنعة، خلف قصائد الوطن التي تعمّدت قوافيها في ماء الفتنة وماء الفساد المُمنهج الآسن.
كما إن الشعب، قد لامس مقدار الألم وعمقه بتلك الصرخة، التي هددت لا نقول ديناصورات الشد العكسي فحسب، وإنما نزيد على ذلك، بأنها هددت أفاعي الوطن التي نخرت جحورها في مؤسسات الدولة، وفي جدران القصر عن طريق التمسح بعتباته وتحت بلاط الديوان.
فعلى وقع تلك الصرخة المدوية، جدد الشعب بكل أطيافه، وألوانه، وعشائره، وحراكاته النزيهة، وأقلامه الشريفة، آيات الولاء والانتماء للوطن وقائد الوطن ملبين قائلين: نعاهدك يا سيدي، بأن نكون فوق صهوة ثورتك رماحاً مسنونة؛ لبقر بطون تلك الأفاعي (الأناكوندا) وتزيين ساحات خسائر الوطن، بنصب أعواد المشانق لرؤوسها الضخمة المتشعبة. [email protected] الدكتور محمد السنجلاوي