في تصريحات مستفزة، ومتجاوزة لحدود المنطق، ومفتقرة بشكل كبير للمنهج العلمي، ولشروط المصداقية، طلع علينا حسين باشا المجالي قائد الأمن العام ليقول: إن الحراك الشعبي سبب مباشر لاختلال الأداء الأمني في الآونة الأخيرة، وذلك لاشتغال أجهزته في تأمين المسيرات، وهذا القول - للمتابع للحَدَث اليومي - مثار استهجان وألم، وهو مدفوع جملة وتفصيلا:
الحراك الشعبي راشد، سلمي النزعة والسلوك، محدد البرنامج والمطالب، واضح الأدوات والأساليب، مكشوف الهوية ومعلوم الرموز، محدد المسار والوجهة، عمل ستةً وعشرين شهرا، لم تصتد الكاميرا عليه هفوة، ولم تَثبت عليه في المحكمة جناية.
الأمن يا سيدي في عشرات المسيرات التي شهدتُها بنفسي، في أكثر من مكان - وأخص إربد بالحديث - كان نادر التواجد، وإذا كان حجم المسيرة فوق القدر المتوقع، كان يُدعم ببضع أفراد إضافيين لداعي تنظيم المرور فقط لا غير، وتنفضُّ المسيرة بعد ساعتين على الأكثر بأمان.
في المرات القليلة التي تتواجد فيها قوات الأمن والدرك بأعداد معقولة، كان المتظاهرون يدركون أن شيئا ما ليس طبيعيا، ثم يتضح أن الأمر لا يتعدى وجودَ أشخاص بعدد أصابع اليدين، ممّن يمثلون – تجاوزا - جبهة المولاة، فيفصل الأمن بين الطرفين وتمرُّ الأمور بسلام.
في ثلاث أو أربع محطات - على الأكثر - وعندما يكون الدرك على أهبة الاستعداد بزي الطوارئ، كانت المؤشرات ترتفع باتجاه حدوث مصادمات بين الطرفين، وللأسف فإن طرف الولاء كان يبدأ بالتطاول اللفظي والمسلكي، ويكون ذلك تحت جناح الأمن وبتغطيته، وبالتنسيق معه، وأظن أن هذه الظاهرة كانت هي السائدة في كل المشاهد المخجلة، التي حدث فيها اعتداء، وسالت فيها الدماء على امتداد الوطن، وقد وُثّقت هذه الظاهرة بالفيديو والصور، ورُفعت إلى الجهات المختصة، دون أن تُحير جوابا، أو تتخذ إجراء، أو تتوصلَ إلى نتيجة!!
لا يُصدّق عاقل أن جهاز الأمن قد نذر طاقاته وقدراته وطواقمه لتأمين المسيرات في ثلاث المدن الكبرى، وهو منشغل بالترتيب لها مدار الأسبوع (164 ساعة)، مع أن مدة أكبرها لا تتجاوز أربع ساعات من قبل بدئها وحتى الانتهاء، ومع العلم أن تعداد كوادره يقدر بعشرات الآلاف، وهي مجهزة بأحدث ما في المنطقة من معدات!!!
أن نعزوَ تردِّي الأداء الأمني للحراك الشعبي، فيه الكثير من الظلم، بل والاستخفاف بعقول الرأي العام، لأنه غير ممكن، وغير منطقي في نفس الوقت، فأزمة الأمن أسبقُ ظهورا، وأبعدُ زمنا من عمر الحراك الإصلاحي.
منذ سنوات بعيدة نعلم من أصدقائنا وأقاربنا في جهاز الأمن، أن هناك أحياء بعينها في البلد لا تستطيع الأجهزة الأمنية دخولها، بل تُمنع من ذلك رسميا، باعتبارها مناطق حرام لصالح نافذين، أو فاسدين، أو أصحاب أسبقيات، أو مناطق حساسيات وتوتُّرات مجتمعية، في ظروف مختلَّة، خلقتها السياسة العامة في إدارة الدولة بكل مؤسساتها.
إن غيبوبة العدل، وهضم الحقوق، وتجاوزات الرسمي - باسم السلطة - وعدوانه على حقوق الناس، وغلق الباب عن العامّة في الانتفاع بمرافق الدولة ووظائفها، واحتكارها الأصحاب النفوذ، وأرحامهم ومحاسيبهم، على حساب حقوق الآخرين وكفاءاتهم - سبب أصيل في خلق الاحتقان، والتأهيل النفسي الجمعي باتجاه الجريمة والانحراف.
كما أن العدوان المكشوف على مقدرات الدولة وأموالها، وإفقار قطاع واسع من المجتمع، والإفساد الممنهج للمؤسسات التربوية والإعلامية والشبابية خاصة، وتسخيف الاهتمامات والمزاج الشعبي العام، واختطاف المواقع القيادية في الجامعات لصالح شخوص بعينها مقابل الولاء لبرنامج الفساد، وبالتالي رداءة المخرج التعليمي - كل ذلك يعتبر من الأسباب الأكيدة وراء ظهور جيش من المحرومين الناقمين على الحياة والناس، غرقوا في أوكار الفساد والتسكع والصعلكة، ثم دخلوا طور التنظيم والعصابة، ثم دخلوا في حرب معلنة مع المؤسسة الأمنية، منذ سنوات كثيرة قبل الحراك الشعبي الإصلاحي.
نرجوكم كمسئولين ألاّ تلقوا على أكتاف الآخرين أسباب فشلكم، وثمار سياساتكم المرة، فالناس منذ عقود، قد فقدوا الثقة برموز النظام، وبقدرته على تقديم أي حلّ يخرج الدولة من أزمتها،كنت - كغيري من الأردنيين - أتمنى طيلة عمري أن أسمع من مسؤولي هذا النظام - وما زلت على أمل - أحدا يُكلِّمنا بصدق وصراحة عما يجري، ويعترف أمامنا كباقي دول العالم المحترمة بخطايا النظام تجاه شعبه ووطنه، بكل شجاعة وجرأة، ثم يستقيل، أو يحاسب المسؤولين عن ذلك، ثم يعزم على تدارك الحال بإخلاص، لكنني أخشى أن أموت قبل أن تتحقق لي أمنتي وقد أكهلت وشاب مفرقي.
حسين باشا؛ هذا رجاءٌ من أخ لك في الإسلام والمواطنة: لا تزد جروحنا جرحا، ودعنا على حلمنا في حدوث المعجزة وتحقيق الأمنيات، فما زال عندنا بقية أمل بقدوم هذا الفارس، الذي يصوب المسار، ويعيد الثقة والحياة لمؤسسة الحكم، وسياسة رموزها، قبل أن تذهب الفرصة وتفدح الأثمان،خلِّيها بتبنها يا حسين باشا، فالمعلوم عندكم أعظم وأدهى.