عند قراءتِنا للمشهدِ السياسِيِّ الأردنِيِّ تصدُمنا مِن دونِ شكٍّ الصورةُ القاتمةُ لهذا المشهدِ ؛التي تعكسُ حالةَ التصدعِ والتمزقِ والتخبطِ التي يعانِيها الوضعُ الأردنيُّ ؛إضافةً إلى الفشلِ والإخفاقِ اللذين يميزان السياسةِ الأردنيَّةِ على المستويين الرسمِيِّ والحزبيِّ في مواجهةِ التحدياتِ الخطيرةِ المفروضةِ على شعبِنا الأردنيِّ ؛فإذا ما قمنا باستعراضِ أو تقليبِ صورةِ الواقعِ الأردنيِّ الراهنِ ،فسوف نجدُ أنَّ جزءًا من هذهِ الصورةِ القاتمةِ ،تتمثلُ في الأنماطِ الشاذةِ والغريبةِ في التفكيرِ والسلوكِ اللذين أفرزهما هذا الواقعُ .
فالناظرُ إلى القوى الوطنيَّةِ والقوميةِ واليساريَّةِّ الحربائيةَّ التي تجترُّ خطاباتٍ آفلةٍ ممجوجةٍ ؛ والانحرافُ الحزبيّ ،والخلطُُ البرامجيُّ في الأولويّاتِ لدى هذهِ القوى،الذي انعكسَ سلبًا على أدائِها الرديء في التعاملِ مع قضايا ومصالحِ الشعبِ والوطنِ ،بعدما تخلَّت عن شعاراتِها الرنَّانةِ الجوفاءِ عندما كانتْ تضعُ يدَها بيدِ المعارضةِ ،وتطالبُ بإطلاقِ الحريَّاتِ ،ونشرِ الديمقراطيةِ ،والإصلاحاتِ السياسيَّةِّ والاقتصاديةِ ،وبناءِ دولةِ القانونِ ،وفصلِ السلطاتِ الثلاثِ ،وإلغاءِ قانونِ الصوتِ الواحدِ وعدمِ رفعِ الدعمِ إلى غيرِها من الشعاراتِ الزائفةِ
فلقد تنكرت لكل تلك القيم جميعًا ،وبادرتْ إلى بيعِ ولاءاتِها عندما أعلنت انشقاقَها عن القوى الإصلاحيةَّ ومشاركتِها في الانتخاباتِ التي كانت بالأمسِ القريبِ من أشدِّ المعارِضين لها .ممَّا كانَ لهُ أكبرُ الأثرِ في عزلِها عن بيئتِها المجتمعيّة، وسهّل مهمّةَ إقصائِها وتحجيمها من قِبلِ المجتمعِ .
لقدْ كشفَ فعلُها القبيحِ هذا ،أنَّها وصوليةَّ وانتهازيةَّ ،انخرطتْ في مركبٍ اختلاليٍّ يحدوها جوعُ المناصِبِ ،والانتصارِ للفئويَّةِ ،والمحسوبيَّةِ والشخصيَّة ،ظنًا مِنها أنَّها أرقامٌ مؤثرةٌ ،والواقعُ يقولُ :إنَّ هذهِ الأرقامَ لا قيمةَ ولا وزنَ لها يذكرُ على مساحةِ الوطنِ ؛إذْ ينحصرُ وجودُها في مجموعاتٍ رمزيّةٍ صغيرةٍ ،وهامشيّةٍ ممقوتةٍ جماهيرياً لا أثرَ لها في الواقعِ الراهنِ.
إن الحُججَ والذرائعَ التي تُسوِّقُها هذهِ القوى المندثرةُ أو التي في طريقها إلى الاندثارِ ؛مردُّه إلى أنَّ هذهِ القوى أدارتْ الظهرَ إلى شعاراتِها ؛ممَّا لا يًمكِّنُها مِن القفزِ عن الحقيقةِ التي تقولُ : إنَّ هذهِ القوى تعاملتْ تاريخيًا معَ الحركاتِ الإسلاميةِ بعدائيةٍ ووصمتها بأنَّها عميلةٌ للنظامِ ؛وأنَّها تعقدُ الصفقاتِ معَهُ على حسابِ القوى الوطنيةِ والقوميَّةِ واليسارِيَّةِ ؛وإذا بها تقومُ بنفسِ الدورِ لينكشفَ القناعُ عن وجهِها الذي أفسدَه الدّهُر ؛وكان ذلك جليًا من خلالِ مخططِها الدنيءِ عندما أعلنتْ انسحابَها من القوى الإصلاحيةِ وقبولِها بالانتخاباتِ لتمنحَ الحكومةَ صكوكَ الغفرانِ لرفعِ الأسعارِ وضربِ مشاعرِ المواطنين عُرْضَ الحائطِ.
وبهذا تثبتُ القوى القوميَّةِ والوطنيَّةِ واليساريَّةِ عجزَها التاريخيِّ عن الاندماجِ بالشعبِ وتحريكِ جماهِيره ؛لأنَّها لمْ تستفدْ مِن أخطائِها، ولا من أخطاءِ غيرِها، فابتعدتْ عن شعبِها، وعن ثقافتِها، ممَّا دفعَ الشعوبَ إلى الابتعادِ عنها ،بلْ ويجبُ معاقبتُها على خيانتِها ،فالوطنيةُ ليستْ صراخًا وليستْ حمَّى ،إنَّما الوطنية إيمان ٌوالإيمانُ معرفةٌ والمعرفةُ فهمٌ!.
كما عكسَ المشهدُ السياسيُّ موقفَ الحركةِ الإسلاميَّةِ الذي أظهرَ عدمَ ثباتِ موقفِها الذي تمخَّضَ عن ضعفِ مشاركتِها في الانتفاضةِ الجماهيريَّةِ الأخيرةِ ،وإذا ما ربطُنا هذهِ السيولةَ والترجرجَ في النتائجِ بأمورٍ موضوعيّةٍ ،نجدُها تتعلّقُ بطبيعةِ المجرى المتعرّجِ الذي سلكتْه الحركةُ الإسلاميَّةُ ،ومنها أداؤها السياسيُّ وانكشافُ برامِجها ومخطّطاتِها عندما انتهجتْ سياسةُ النأيِّ بالنفسِ عن تلكَ الاحتجاجاتِ ؛واحتجابِ القياداتِ الإسلاميَّةِ عن الفعالياتِ الشعبيَّةِ الغاضِبةِ ؛وخاصة في المسيرةِ التي دعتْ إليها الحركةُ نفسُها في السادسِ عشرَ من الشهرِ الجارِي بعدَ صلاةِ الجمعةِ من أمامِ المسجدِ الحسينيِّ ؛وهي الجمعة التي كانتْ تعولُ عليها الفعالياتُ الشعبيةُ والسياسيةُ على أنْ تكونَ الحاسمةَ لتتراجعَ الحكومةُ عن القرارِ الصدمةِ الذي مسَّ غالبيةَ الشعب الأردنيِّ
ولقد أثارَ ذلك الشكوكَ والتساؤلاتِ حولَ موقفِ الحركةِ الحقيقيِّ من الإصلاحِ وغيابِ قادةِ الحركةِ الإسلاميَّةِ عنِ المسيرةِ،وعزا المراقبون هذا الموقفَ المريبَ للحركةِ الإسلاميةِ باللقاءِ الذي جمعَ الأمين العامّ لحزبِ جبهةِ العملِ الإسلاميِّ حمزة منصور بوزيرِ الداخليةِ عوض خليفات عشيَّة المسيرةِ ,إذ رأى المراقبون أنَّ الإسلاميين خرجوا مِن اللقاءِ بصفقةٍ مع الحكومةِ تقضي بابتعادِ الحركةِ عن الساحةِ على أنْ تدرسَ الحكومةُ مطالبَ الحركةِ السياسيَّةِ والتي تتعلقُ بقانونِ الانتخابِ وتعديلِ الدستورِ.
وموقفُ الحركةِ هذا يذكرنِي بهذهِ الحادثةِ الطريفةِ : عندما قامَ أحبابُ ومريدوا الشيخ الجليل الراحلِ عبد الحميد كشك – رحمهُ اللهُ - بالتجمهرِ عَقِبَ الإفراجِ عنه عامَ 1982 مطالبين بعودتِه لمسجدِ "عينِ الحياةِ " في منطقةِ دَير الملاَّك بالعباسيَّةِ حيثُ كانَ يخطبُ الشيخُ لسنواتٍ ،وكانَ ذلكَ أمامَ المسجدِ عَقِبَ صلاةِ الجُمُعةِ ،وظلَّ المصلون يهتفون مطالبين بعودةِ الشيخِ للخطابةِ
وفجأةً ظهرَتْ سيَّارة نقلٍ كبيرةٍ محملةٍ بالبيضِ ووقفتْ على مقرُبةٍ من المسجدِ ونادي منادٍ :بيضٌ طازجٌ بنصفِ السعرِ الذي يُباعُ بهِ في السوقِ ,وقفَ المتظاهرون قليلاً ،ثمَّ بدؤوا يتسللون ناحيةَ السيارةِ للِّحاقِ بطبقِ بيضٍ كي لا تفوتُهم الفرصةُ التي قدْ لا تُعوَّضُ مستقبلاً ،وتساءَلَ البعضُ ما المشكلةُ أنْ نشتري البيضَ ونُكمِّلُ المظاهرةَ ؟دقائقُ قليلةٌ وألتفَّ المئاتُ حولَ السيَّارةِ ،ونَفِدَ البيضُ في أقلِّ مِن ربعِ ساعةٍ
بعدها بدقائقَ حضَرت قواتُ مكافحةِ الشغبِ والتي كان من المتوقعِ أنْ تخوضَ معركةً حاميةَ الوطيسِ في صَرِفِ المتظاهرين لكنَّ ما حدثَ غير ما كان متوقعًا ،فقدْ وقفَ المتظاهرون يحملونَ أطباقَ البيضِ في أيدِهم ،ينظرون إلى الجنودِ وهم ينزلون من سياراتِ الشرطةِ وينظرون إلى البيضِ الذي في أيدهم والذي حصلوا عليه بسعر (لَقطة) متنبهين لِمصير البيضِ في حالةِ الاستمرارِ في التظاهرةِ ؛وبدأ المتظاهرون في الانصرافِ بدونِ صدامٍ ،فالجميعُ عنده قناعةٌ بأنَّه يمكنُ للمظاهراتِ أنْ تتكررَ لكنَّ البيضَ لنْ يُعوّض .
الحكومةُ تتصرفُ معنا على نهجِ هذهِ الواقعةِ حيثُ تُحَمِّلُ كلاً منا كرتونة بيضٍ تعيقهُ عن الحركةِ خوفًا من وقوعِ البيضِ ؛وقد تختلفُ أشكالُ كرتونةِ البيضِ ولكنَّ النتيجةَ واحدةٌ ؛وهي وقوفُنا محلَّكْ سِرْ ،نتحركُ داخلَ أحذيتنا خوفاً من وقوعِ البيضِ.
الإصلاحُ يقتضي الصدقُ والبقاءُ في صفِّ المعارضةِ ،والانتصارُ للوطنِ ،والابتعادُ عن الخداعِ والتضليلِ وحنثِ العهودِ ،فالشعبُ لم يحصدْ طيلةَ السنواتِ الماضيةِ نتيجة سياساتِ الاحتواءِ إلا الخيباتِ والنكرانِ في مختلفِ المجالاتِ.
[email protected]