في بعض ايام الشتاء الباردة ونتيجة لبعض الظروف الطارئة، يحدث أن يشح توزيع الغاز المنزلي لبضعة ايام، وهنا تصبح جرة الغاز عزيزة، ويصبح سائق سيارة الغاز سلطانا يترقب الجميع أن يمر موكبه من امام منازلهم ليسعدوا بطلته البهية، وتغدو موسيقى سيارة الغاز المزعجة "في الايام العادية" موسيقى طربية رائعة يتوق الجميع لسماع صوتها، الى درجة استعداد النساء للرقص على انغامها وتهيء الرجال لعقد حلقات الدبكة طربا بها.
ويدرك سائق سيارة الغاز هذا الامر جيدا فيجد فيه فرصة لا يجب تفويتها لاثبات اهميته واعادة اعتباره عن تلك الايام التي كان يجول خلالها في الشوارع وبين المنازل منتظرا ان يطل عليه احد من الشباك او يومئ له بادنى اشارة ليتوقف ويطلب منه جرة غاز، لذا تراه يقود سيارته في هذه الظروف بسرعة كبيرة على غير المعتاد وبدون اطلاق موسيقاه التي تشنف الاذان.
هذه الحالة من شح توريد الغاز تضطر المواطنين الى الذهاب الى محلات توزيع الغاز لشراء الغاز ونقله بانفسهم الى البيوت، وهناك حيث يتجمع عدد من الرجال باسطواناتهم الفارغة امام وكالة التوزيع يشعر الموزع باهميته الكبرى، ويبدأ بالظهور بمظهر القائد الذي تتجه له الانظار لحل المشكلة فيندمج بالدور ويبدأ باطلاق التصريحات والوعود للمتجمهرين من انه يحاول بكل جهده حل المشكلة وانه يسعى لتدبير شحنة من الاسطوانات الملأة بالغاز العزيز، حيث سيقوم بتلبية احتياجات الجميع عند وصولها، ولتاكيد اهميته في هذه المرحلة "الحاسمة" نجده لا يرفع التلفون عن اذنه لاثبات انه يقوم "باجراء اتصالاته" فيما يخص الازمة.
تقفز هذه الصورة للاذهان ونحن نطالع الاخبار حول جهود الحكومة لحل أزمة الغاز المصري وتصريحات الاخوان المسلمين باستعدادهم للتوسط في حل الأزمة وذلك بعد ان شهد الغاز المصري تذبذبات وانقطاعات طويلة ربما كانت مبررة او نقبل تبريرها في الفترات والظروف التي مرت على مصر الشقيقة خلال الفترة الانتقالية التي سبقت انتخاب الرئيس المصري.
اما خلال الشهور التالية لانتخابه فقد اصبح الامر غير قابل للتبرير" وان كان قابلا للتفسير والتأويل، فشراء الاردن للغاز المصري يأتي في اطار اتفاقيات رسمية موقعة بين الجانبين وهي تعتبر اتفاقيات دولية اكد الرئيس المصري على ان مصر تحترمها وتلتزم بما جاء فيها،في ظل هذا التذبذب في امدادات الغاز المصري "رغم موافقة الاردن على رفع اسعاره".
ومع الضعف الحكومي في العمل على حل الازمة، تعامل الاخوان المسلمون بطريقة موزع الغاز، فها هم يوجهون اشارات مزدوجة للحكومة والشعب بانهم سيقومون او انهم يملكون الحل فيما يتعلق بمشكلة الغاز المصري، مستخدمين دالتهم عند "الاخوان" .
في الجانب المصري، في حين كنا ننتظر من "الاخوان" في الاردن ان يثبتوا لهذا الشعب ان ولائهم الاول هو لهذا البلد وانه ولاء مقدم على الولاء للتنظيم المدار من خارج الحدود، وانهم مستعدون للوقوف في وجه هذا التنظيم اذا ما تعارضت مواقفه مع المصالح الوطنية العليا، بل كنا ننتظر من الاخوان ان يخرج علينا احد منظريهم ليقول انهم مستاؤون كبقية هذا الشعب من الانقطاع في توريد الغاز المتفق عليه، لا ان يقولوا انهم مستعدون للتوسط.
ان اعلان الاخوان المسلمين استعدادهم للتوسط في مسألة الغاز ما هو الا اعتراف صريح بان "الاخوان" في مصر هم من يقفون وراء انقطاعه، والا كان عليهم ان يقولوا ان مشكلة الغاز هي مشكلة بين بلدين وان المعني بحل هذه المشكلة هو حكومة البلدين، سيما وان مؤسسة الرئاسة في مصر اعلنت اكثر من مرة استقلالها التام عن التنظيم، وهذا الاعتراف الصريح بوقوف "الاخوان" في مصر وراء ازمة توريد الغاز يعني بكل بساطة ان هذا الغاز اصبح ورقة ضغط خارجية تستخدم للضغط على الاردن باتجاه تحقيق مصلحة خاصة لفئة او تيار معين فيه.
ان العمل على اعادة ضخ الغاز المصري وادامته وانتظامه هو واجب حكومي يجب ان تضطلع الحكومة به منطلقة من موقع صاحب الحق وليس المستجدي، فهذا الغاز نحن نشتريه وفق اتفاقيات موقعة بين البلدين وعلى كل بلد احترام اتفاقياته الدولية سيما وان الجانب المصري ممثلا برئيسه المنتخب اعلن غير مرة انه ملتزم باتفاقيات بلده الموقعة مع "الاخرين".
وبدلا من قيام الحكومة باتخاذ موقف حاسم وواضح تجاه هذا الموضوع نراها تقابل الاشارات "الاخوانية" التي تبدي الاستعداد للتوسط في حل المشكلة باشارات تعني القبول بهذا العرض، بل نراها تطلق اشارات غزلية ناعمة تجاه الاخوان، فها هي الحكومة تغازل الاخوان في موضوع اموال جمعية المركز الاسلامي وتعين احد قادتهم رئيسا للهيئة الإدارية المؤقتة لهذه الجمعية كخطوة نحو اعادة سيطرتهم على هذه الاموال.
ان استخدام الغاز كورقة ضغط على الاردن امر مرفوض، وان على الحكومة ان تعمل بكل جهدها على حرق هذه الورقة وذلك باستخدام الكثير من الاوراق المقابلة التي "ان شاءت" وجدتها ولعبت بها، ونحن ناسف فعلا ان تكون العلاقة بين الاشقاء العرب هي علاقة لعب بالاوراق، ولكن الواقع يقول ان فكرة الاخوة لم تعد هي ضابط العلاقات العربية وانما هي لغة المصالح الخاصة، فاذا كان الامر كذلك فلنلعب هذه اللعبة بما يحقق مصالح البلد الاقتصادية.
ولا يجوز ان يخضع اقتصادنا واستقلالنا وهيبة دولتنا لمنطق الصفقات والمصالح الضيقة، فاذا كان الواقع يفرض علينا الخضوع لمنطق المصالح فلتكن المصلحة الوطنية هي المعيار والضابط والموجه، وهو امر يفرض على الحكومة رفض الحلول التي يمكن ان تاتي بهذه الطريقة لانها ستكون حلول مؤقتة وتسلب ارادتنا الوطنية وتجعلها مرهونة لارادة طرف من الاطراف داخل المجتمع والدولة.