للعبرة نستذكر أحداث معان عام 1989التي أطلق عليها هبة نيسان لاستخلاص العبر والدروس وما التاريخ إلا مكمن الدروس والإسترشاد للباحثين عن الرشاد ؛لنعود بالذاكرة لتلك الفترة العصيبة المؤلمة التي انكشفت خلالها مواقع خلل نتيجة الإهمال والتهميش ورفع الأسعارالتي انكوى بنارها الكادحون أكثر من غيرهم حيث كانت ردة الفعل الأولى من أهل معان تبدو ذات سقف عال رغم التعتيم الإعلامي والطوق الذي ضرب على المدينة.
فالصورة العامة ملامحها التعامل الخشن من قبل رجال الأمن والعنف والتخريب من قبل الناس بمهاجمة كافة الدوائر الحكومية تقريبا وتدميرها, ملمحان أدى كل منهما للآخر،فقد كان حرص الدولة شديدا على عدم تطاير شرر الهبة المعانية لبقية محافظات المملكة وهذا جانب إيجابي حتى تسهل السيطرة على الوضع المنفجر.
ورغم الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبت من الحكومة والمواطنين إلا أن مجريات الأمور والدوافع وأسلوب المعالجة والنتائج لجديرة بالدرس والإهتمام لأنها فعَّلت العقل للعمل والحكمة لتسود الموقف والغفلة لتنقلب لصحوة والإهمال لينقلب لاهتمام والسكوت التقليدي لصراخ مزعج ومقلق والرضا الشعبي لرفض وانفلات.
وقد أفرزت هذه الهبة رسم نهج جديد تاق إليه الأردنيون طويلا إذ وضع ذلك النهج الأردن على مضمار اللحاق سياسيا بالكثير من دول العالم،فهبة نيسان كانت إضاءة في نفق معتم احتاج عابروه لومضة تعطيهم أملا لانتهاء صبرهم على الظلام الدامس الذي جعلهم يلجأون لسلوكيات لم يتمنوها ولم يعتادوا عليها.
لقد هب المعانيون بوجه ظلم وقع عليهم وإفقار نتيجة قرارات أوصلتهم لحالة العوز إذ ان نسبة لا يستهان بها منهم يعتاش على قطاع النقل البري وتوابعه وخصوصا بين الأردن والعراق.
لقد لحق بهم الضرر وبأسرهم وتعطلت سبل عيشهم،وحكومة زيد الرفاعي آنئذ لم تأبه لما قد ينتج عن القرارات المتسرعة بل استمرت بإقناع نفسها أن الرضا الشعبي متواصل والمباركة موصولة لأفعال الحكومة ولا راد لها وحاولت هذه الحكومة استمراء هذه القناعة كسابقاتها ولاحقاتها مع اختلاف النسب،فكان أن لفظته هذه الهبة النيسانية المعانية شرّ لفظ غير مأسوف عليه.
الشعوب كالبراكين تهدأ ثم تثورعندما تتوفر لها أسباب وعناصر الثوران من حرارة وضغط وغيرهما لتتفاعل وتثور وحكوماتنا " الرشيدة " لم تبخل بتوفير كل ما من شأنه أن يدفع الناس نحو المجهول.
أرجو أن يؤخذ تذكيري هذا بسياقه الصحيح وليس رغبة بفتح الجروح بل لفائدة الربط بين حدث كان محطة مهمة في تاريخنا وبين الأحداث التي تراوح اليوم هنا وهناك ولا تبدو أنها ستتوقف بل تتسارع وتتزايد ووتيرتها تعلو بسبب البطىء في الشروع بالعلاج.
هل هناك أناس ما زالوا يراهنوا على استحسان واستمراء الشعب لما يمكن أن تقوم به الحكومات الحجرية من إجراءات ضاغطة؟؟ أم ما زالوا معتمدين على أسلوب التضليل والكذب وقلب الحقائق أمام جلالة الملك ليريحوه فيرضى منهم ويريحهم؟؟
وفي ذلك العام (1989) انخفضت قيمة صرف الدينار الأردني بنسبة لا تقل عن 45%, ثم أصبح المواطن الأردني يعرف شيء اسمه مديونية تجاوزت الستة عشر مليار دولار حيث معلومات كهذه لم تكن تعلن إلا بين أعضاء حلقة الحل والعقد المؤتمنين.
هذه المديونية تم تراكمها في وقت كان البترول يأتينا من عراق الشهيد البطل العروبي صدام حسين غفر الله له ،مجانا أو بأسعار تفضيلية لا توجب ارتفاع سعره ويباع للمواطن بسعر السوق العالمي هذا بالإضافة للمساعدات المالية من دول الخليج كاستحقاق ضمن إطار تعويض الأردن لما كان سيترتب عليه ويلحق به جراء وقوفه بجانب العراق في حربه مع الدولة الصفوية الجادة بتصدير " إسلام " ثورتها للدول العربية.
لقد كان الخوف والقلق من تمدد وانتشار الهبة المعانية لبقية المحافظات دافعا لطرح حل جذري أسس لترميم النهج السياسي المشروخ والفاقد لأساسيات التشاركية ومبدأ الشعب مصدر السلطات كما وكان انقلابا على الذات نحو الإصلاح والتصحيح, وهو خوف حميد ومبرر ومن خاف سَلِم والكيس من أدان نفسه.
لقد قرأ الحسين طيب الله ثراه الوضع الخطير والمتفجر وأعمل عقله الشخصي وعقل الغيارى الصادقين من أبناء الوطن الذين كرسوا جهدهم للسير بالوطن نحو الفلاح والصلاح, كما وأعمل حكمته التي عودنا عليها في المُلمات والمحن وما أكثرها في عمر الأردن،ووضع يده بيد من هم أهل للثقة والذين أقسموا بالله أن يخدموا الوطن بإخلاص وكانوا أهل قول بفعل وكانوا عند قسمهم غير حانثين به لأنهم يخشون الله بالوطن فرحم الله من فارقنا منهم وأمد بعمرالأحياء.
لقد كانت حكمة الراحل الملك الحسين رحمه الله بلسما يداوي الجراح وما الحكيم إلا سابق لزمانه وقارئ للحاضر ومستبصر للمستقبل محتاط لما ستؤول إليه الظروف والأيام فيأخذ حذره ويعد العدة لما يمكن أن يواجهه مع شعبه ولا يولي زمام الأمور الا " للمخلصين".
وببصيرته النافذة وتجربته التي عصرته أيامها وجعلته يأتي الحذر من مكمنه وحنكته التي أكسبته إياها خطوب حكمه في قلب محيط متلاطم الأمواج يضطر الإندفاع يمنة مرة ويسرة مرة حتى يتمكن من إعادة توازنه ويسير بالأردن والأردنيين نحو الإستقرار الذي نراه مهتزا جراء النبش في ركائزه.
أيقن رحمه الله أن هناك ضغطا ولد انفجارا وأن ظلما تسببت به مكامن الثقة قد دفع بالناس ليهبوا مطالبين بحقوقهم التي هضمت وإنسانيتهم التي تم الإستخفاف بها وكرامتهم التي هدرت.
لقد كان يُنظر لأهل معان بأنهم الأكثر ولاءا والأكثراستعدادا للتضحية من أجل النظام حيث فطروا على حب النظام الهاشمي كبقية الأردنيين, وتشكل هذا الإنطباع كونهم كانوا من أوائل المستقبلين والمرحبين بقدوم بني هاشم والملك المؤسس بسبب موقع معان الجغرافي المحاذي لشبه الجزيرة العربية (السعودية الآن) والأقرب للقادمين من الحجاز فصار ينظر لهم نظرة ود خاصة من قبل النظام وبالتالي كانوا يأملون استمرار هذه النظرة من النظام.
فمن دوافع هذا التخلخل الإجحاف والتنكر لهم (في لحظة انشغال من النظام) وهم السباقون والأوائل الذين فتحوا قلوبهم للنظام،والولاء من قبل الشعوب لحكامها يتناسب طرديا مع نيل الحقوق ولا يُنظر له أنه تحصيل حاصل بل الولاء لا يتحقق إلا بإعطاء الحقوق للمطلوب منهم الولاء.
فإذا انتُقصت هذه الحقوق انتقص الولاء وإذا أُعطيت ازداد وكنتيجة لذلك تتزعزع الثقة وتفتر الإستجابة أو تشتد وتقوى،وما أشبه ظروف اليوم بظروف البارحة, فها هي الناس بعشائرها التي ارتكز عليها قيام النظام, تطالب بما صودر من حقوقها وما نهب من أموالها وما بيع من مقدراتها وتطالب بإصلاح ما أفسدته البطانة المؤتمنة المقربة.
وما ذلك إلا نتيجة وجود خلل وتصدع طال الولاء التقليدي " الحاصل تلقائيا وفطريا " كما تفهمه البطانة " المخلصة" الناقلة التي لم تقرأ التاريخ ولم تأخذ العبرة من هبة نيسان،فما كان من المغفور له الحسين أن استجاب لأغلى ما يملك وسار بالأردن نحو الديموقراطية بمقوماتها من تشكيل أحزاب ومجلس نواب وصحف قطاع خاص واحترام الرأي والرأي الآخر وإلغاء قانون الطوارئ .
وتم إخراج مجلس نواب بانتخابات نزيهة ثلث مقاعده شغلها نواب الإخوان المسلمين, والغالبية الشعبية والحزبية الآن تطالب بتطبيق قانون انتخابه والعدول عن قانون الصوت الواحد،فكان ذلك استجابة لنبض الشارع المعاني والشعبي, الذي كان قابلا للتمدد ليطال كامل الشارع الأردني, ليلتقي بمنتصف الطريق مع شعبه ودرءا لحصول ما لا تحمد عقباه لو استمرت الهبة.
فحكمته رحمه الله كانت تتجلى بقراءته الواقعية الحكيمة للظرف المنظور وما يمكن أن يليه ويحسم الأمر حتى لا تتفاقم الأمور للأسوأ. وحكمته تتجلى بأسمى معانيها وأرقى مراتبها عندما يتخذ قرارا استراتيجيا ولا تطول المدة التي يأتي خلالها بقراره الحكيم الذي يهدئ من روع الناس ويضعهم على بداية الطريق ويجعلهم شركاء بصنع القرار.
إن جميع الأردنيين يتمنون على جلالة الملك عبدالله أن ينهل من مدرسة والده الحسين ومعينه إذ كل أدوات الحلول بيد جلالته وما زالت هناك الفرصة والإمكانية للسيطرة على الأمور قبل تفاقمها وانفلاتها وإجهاض ما قد تأتي به الأيام.
ونعلم جيدا وكلنا ثقة أن الحكمة والدراية والحنكة ما هي إلا صفات اتصفتم بها واكتسبتموها من حكيم محنك ذو دراية يقرأ ما بين سطور الأحداث حاسما الموقف بقرار متزن وواضعا النقاط فوق الحروف. وما الحكمة والحنكة إلا تجنيب الوطن من كل سوء ومن الوقوع بالمزالق والخطأ والإبتعاد عما يمكن أن يسبب القلق والتوتر والتأزيم والخسارة وليست الحكمة والحنكة أن نبقى منتظرين حتى وقوع المحظور, لا قدر الله, ثم نبدأ بالبحث عن الحل ويكون الوقت قد أدركنا ونصبح نتخبط تحت ضغط الزمن وعيون المراقبين المدعين بصيانة حقوق الإنسان وغليان الشارع الذي "لا يملك ترف الوقت" حسبما أدلى به جلالة الملك.
فإذا هبت ريحك فاغتنمها, وهذه الريح قد هبت ونخشى أن تصبح عاتية عاصفة لا تنفع حينها الحكمة ولا يردعها البطش وتكون نقطة اللاعودة, جنّبنا الله وجنّبكم شرورها. فالحل وأدواته بيد جلالتكم وليس بيد الحكومة الضاغطة وليس بيد البطانة التي همها الأسمى تزيين وتجميل وتزييف الأوضاع لجلالتكم وليس بيد المستشارين المتخمين بل بوضع يدكم بيد المخلصين من شعبكم.
جلالة الملك.....أقسم أني أصدقك القول أن هذا ما يؤمن به كافة الناس ويجول بخاطرهم وهو الذي يدور بالمجالس وأدبيات الحوارات والنقاشات المنظمة وغير المنظمة, فلا تخذلوهم حتى لا يخذلوكم, لا قدر الله, ولا تزيدوا إحباطهم حتى لا تحبطوا, بل سارعوا جلالتكم بتحسس نبض الناس ولا تعتمدوا على المقربين منكم فهم سبب البلاء وبيدكم الدواء, ولا تتمسكوا بـمن هم سبب المعاناة والغليان وتأزيم الشارع,
ولا تجعلوهم ينتظرون أكثر مما انتظروا حتى لا يملوا ويديروا ظهورهم, والشعوب عندما تدير ظهورها لا تنظر خلفها وإن نظرت ستنظر بغضب بل تمضي لأن صبرها نفذ ولم يُحترم وكرامتها قد مُسَّت ولا بد من الدفاع عنها, ولا تتركوهم لقمة سائغة للنهمين وللحكومات الضاغطة حتى لا يندفعوا لسلوك درب باتجاه واحد, لا سمح الله.
فيا سيدي.....الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. ووالله لسنا براغبين ولا نتمنى أن يقطعكم بل ما نتمناه من جلالتكم الإسراع بالعلاج وأولوياته صمَّ أذانكم لأصوات غير المخلصين مع دعائنا لجلالتكم بالتوفيق لما فيه خير الوطن وأبعد عنكم المتزلفين والمتملقين وحباكم بالغيارى وبالمخلصين الصادقين. وحمى الله الأردن والغيارى على الأردن. والله من وراء القصد.