لم تكن ثمة مفاجآت في مؤتمر اصدقاء سوريا الذي انتهى للتو في باريس، في نسخته الثالثة (بعد اسطنبول وتونس)، حتى كلمة الرئيس الفرنسي (الجديد) فرانسوا هولاند كانت باهتة ومكررة ولم تمنح ساكن الاليزيه الجديد أي فرصة للبروز او تمايز الدبلوماسية الفرنسية في عهده عن تلك التي كان يطرحها نابليون الجديد (ساركوزي) ورئيس دبلوماسيته الاستعماري العتيق آلان جوبيه.
لكن المفاجأة الوحيدة (ربما) ان كان هناك من هامش يسمح بوصفها كذلك، هو ذلك الغضب - وليس زلة لسان بالتأكيد - الذي استبد بالسيدة الاميركية التي تستعد لمغادرة موقعها كوزيرة للخارجية، بعد ستة اشهر، سواء تم التجديد لباراك اوباما ام تمكّن الجمهوري ميت رومني من الجلوس في المكتب البيضاوي بالبيت الابيض كأول مسيحي من طائفة المورمون (المتصهينة للتذكير)، يصبح رئيساً للولايات المتحدة، كما حدث مع «الكاثوليكي» جون.ف كنيدي اوائل ستينات القرن الماضي.
هيلاري رودهام كلينتون، خرجت عن الـ»كياسة» الدبلوماسية، وبدت وكأنها تنطق باسم دولة مارقة او فاشلة او ذات نظام ديكتاتوري ارعن وهددت في كلمتها أمام المؤتمر «الباريسي» روسيا والصين، بانهما ستدفعان «ثمناً» لعرقلة التقدم باتجاه تحول «ديمقراطي» في سوريا!
هي كلمات فظّة، فضلاً عن كونها تفيض غطرسة واستعلاء، فإنها تستعيد اجواء الحرب الباردة، وخصوصا تلك التصريحات التي تفوح منها رائحة الطيش والرعونة التي حفلت بها خطابات الرئيس الجمهوري الاسبق رونالد ريغان تجاه الاتحاد السوفياتي الذي خلع عليه صفة «امبراطورية الشر»، ثم جاء بعده الجمهوري الطائش جورج دبليو بوش ليختزل العالم كله في خانتين او فسطاطين (لا فرق) أخيار وأشرار ومن ليس معنا فهو ضدنا.
هنا والان... تستعيد السيدة الشقراء من واشنطن تلك اللغة، ولكن في انفعال وخطاب مرتبك ومقاربات تفضح عجز الولايات المتحدة وتقلّص هوامشها، اكثر مما تحيل الى قوة الدولة الاعظم التي تجوب اساطيلها بحار العالم وترسو في معظم موانئ المعمورة، ناهيك عن قواعدها العسكرية التي تتوزع في القارات الخمس دون إهمال جيوش العسس والمخبرين والجواسيس المحليين وعملاء السي أي ايه من الاميركان والحكام وحاملي الجنسيات المتعددة..
كل هذا صحيح الى الان، لكن الفارق يكمن في ان اميركا بدايات العقد الاخير من القرن الفارط ليست هي اميركا اليوم، بل هي ليست اميركا بداية الالفية الجديدة عندما فرضت نفسها القوة الاعظم الوحيدة التي تقود العالم وتكتب جدول أعماله.
اميركا بوش وخليفته الرئيس الرابع والاربعون باراك حسين اوباما، منهكة ومرهقة، مدينة ومكبلة ونجمها «الاسطوري» آخذ في الأفول، قد لا يكون بالسرعة التي نتمناها لكنها متواصلة ومتنامية، والفشل الاميركي (حتى لا نقول الهزيمة)، في افغانستان والعراق أصعب من ان تخفيه مناورات الدبلوماسية الاميركية (باعتبار افغانستان شريكاً استراتيجياً كما قالت كلينتون في طوكيو) او بالونات الاختبار التي تطلقها او حتى افتعال المشاكل ورعاية الحروب الاهلية والتمرد ضد الانظمة التي لا تسير في فلكها او التآمر على الثورات التي اندلعت في بلاد العرب لحصر تأثيراتها الثورية في اضيق الحدود الممكنة، حتى لو تم تحويل رياح الربيع العربي الواعدة الى شتاء اصولي اسلامي، يعقد الصفقات معها ويطمئنها الى مصالحها.
السيدة الاميركية يبدو انها اخطأت «العنوان» عندما هددت موسكو وبيجين فروسيا والصين كانتا تعلمان انهما تواجهان واشنطن عندما استخدمتا الفيتو المزدوج مرتين، وهما قالتا في غير تلعثم «ان ملامح النظام العالمي الجديد ستحددها نتائج الصراع الدائر الآن في سوريا»..
فلماذا اختارت السيدة كلينتون هذا المسار الاستفزازي؟
من السذاجة الاعتقاد كما قلنا آنفاً، انها زلة لسان بل قَصَدَتْ كل كلمة فيها ولم يتأخر الرد الروسي كما الصيني حيث وصفت موسكو اقوال كلينتون بأنها غير صائبة وغير أخلاقية، كذلك فعلت الصين عندما قالت بغضب ان اقوال وزيرة الخارجية... غير مقبولة بالمرة..
ليس سهلاً ان تُهدّد روسيا والصين وخصوصاً من قبل اميركا التي ترفض الاعتراف بأن العالم قد تغيّر وان قواعد لعبة «دولية» جديدة آخذة في التشكل والبروز..
انه الارهاق والارتباك والمديونية.. يا غبي!