أخطر ما في الإعلان الأمريكي المرتقب، لـ «خطة السلام» المزعومة الجديدة، التي باتت تعرف بـ «صفقة القرن»، أنها تنّصل كيان الاحتلال من جميع المعاهدات والاتفاقيات التي وقعها مع الفلسطينيين، وتخلي مسؤوليته، وتنسف ربع قرن من المفاوضات، وتذروها مع الرياح، وتفرض أمراً واقعاً جديداً، بشروط وفرمانات صهيوأمريكية جديدة، على الشعب الفلسطيني الذي يتعرض الان لأكبر عملية ابتزاز في التاريخ، على مرأى ومسمع أمته التي شارك منها من شارك في خيانته، والتواطؤ ضدهم، ولاكوا لحمهم، وتآمروا عليهم أيما مؤامرة ..
ورغم رفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي يعدّ آخر أيامه على كرسيّ السلطة، لمؤامرة العصر التي تهدف الى تصفية القضية الفلسطينية، فانه ومن معه من رفاق اوسلو، مسؤولون أمام الشعب الفلسطيني، وأحرار الأمتين العربية والإسلامية، والتاريخ، عن قبولهم من الأساس، بالتفاوض مع محتل بلادهم، على بلادهم ومقدساتها، وقبولهم بالتنازلات الكبيرة التي قدموها للكيان الذي رفض حتى خنوعهم، ومسؤولون أمام فلسطين المحتلة عن هدر ربع قرن من زمن قضيتها، ومطاردة أوهام كان الأجدر بأدمغتهم السياسية، أن وعت مسبقا بأن من تنازلوا لهم، والقوا باسلحتهم ذات يوم تحت بساطير احتلالهم، لا يأتمن جانبهم إلا جاهل أو خائن.
صفقة رجل الأعمال النيويوركي دونالد ترمب التي حملت إسماً أكبر من حجمها بألف مرة، لا هي صفقة قرن ولا ما يحزنون .. بل هي مؤامرة حيكت في مطبخ شيطاني، تهدف الى شطب سنوات طويلة من المفاوضات والمعاهدات والاتفاقيات التي كانت تتم برعاية امريكا ذاتها، بجرة قلم، وتخلي طرف الكيان منها، وتقفز عن أهم ملفات التفاوض، وجوهر القضية، كالقدس واللاجئين وحق العودة، وتقدمها عربون محبة للحليف الصهيوني.
ترمب الذي استبق مباحثات الوضع النهائي، بأعلان القدس المحتلة، عاصمة أبدية لمن احتلها ، ضرب أرذل مثل في السلوك السياسي الذي عرفه التاريخ يوماً، بأن تقرر دولة، نيابة عن شعب، أن وطنه ليس وطنه، ومدينته التاريخية المقدسة، ليست مدينته، وتمنحها عاصمة أبدية لمحتلها ومغتصبها، ثم يرسل بعدها بكل الوقاحة والصلافة الأمريكية المعتادة، مستشاريه الصهاينة ، حاملين محملين بخطة سلامهم الجديدة، ويا سلام عليها من خطة ..
خطة أسقطت من حساباتها مدينة القدس سلفاً، واستبدلتها بقرية أبو ديس .. مع التكرم بالسماح للمسلمين بالصلاة في المسجد الاقصى، والمسيحيين في كنيسة القيامة، إن منحتهم سلطات الاحتلال تصاريح دخول لمقدساتهم.
خطة توطّن ملايين اللاجئين في شتاتهم، دون اعترافها بحقهم في العودة الى بلادهم وتقرير مصيرهم ..
خطة، تريد اختزال الدولة الفلسطينية في دويلة بقطاع غزة الذي لم يعد قابلاً للحياة، واقتطاع جزء من صحراء التيه التي القى الله ببني اسرائيل فيها أربعين عاماً من الضياع، وتوطين الشعب الفلسطيني في غياهب سينائها وسرابها ..
خطة، تبقي مستوطنات الاحتلال، وتسمّنها، وتبقي مدن الضفة المحتلة كنتونات مقطعة الأوصال ..
خطة لاقامة «دولة» بلا دولة، ولا حدود أو مياه أو موانىء أو حتى سماء ..
خطة، لو قورنت بواقع الفلسطينيين قبل قدوم طلائع المحررين من سلطتهم عليهم، إبان معايشتهم الإحتلال المباشر، لأكدت أن العودة لاحتلال العنوة، أفضل وأشرف للفلسطينيين من القبول باحتلال الرضى والقبول والخيانة !
فلسطينياً، الإعلان عن حل السلطة وأجهزتها في أسرع وقت، وتخلي رفاق اوسلو عن كراسيهم غربي النهر المحتل، هو الموقف الوطني المبدئي السليم المضاد لمؤامرة القرن، الذي يلجم المشروع الصهيوأمريكي، لتصفية القضية الفلسطينية، وإلا فان سلطة رام الله التي تجاوزها مبعوثو ترمب مؤخراً، ستجد نفسها أمام ورطتين اثنتين لن تحسد عليهما، فان هي وافقت على صفقة ترمب، تكون قد نصّبت مشنقتها بيدها، وأعلنت انتحارها السياسي، الذي سيشعل المدن والقرى الفلسطينية، والعربية الاسلامية، تحت أقدامها وأقدام من ارتضوا بها.. وإن رفضت، سيحمّلها الأمريكان لاحقاً مسؤولية فشل السلام المزعوم في الشرق الاوسط !
استباق الرئيس عباس، الإعلان الأمريكي، باعلان تاريخي مشرّف، بحل سلطته، مستنداً الى مبررات موجبة، على رأسها، الخديعة الأمريكية التي تعرض لها وسلطته، بشهادة العالم أجمع، عبر الإنحياز السافر المطلق لكيان الإحتلال، ونقض كافة الاتفاقيات الموقعة السابقة، واخضاع سلطته لاملاءات وشروط جديدة، لن يكون قادراً على تنفيذها، إضافة لفضيحة التواطؤ العربي العلني، على فلسطين وقضيتها، الذي يمنحه وقادة سلطته، العذر والمبرر، لحلّ سلطتهم، ويغسل عن ثوبهم القليل من خديعة ربع قرن تعرض لها الشعب الفلسطيني، ويعيد خلط أوراق المنطقة، ويقلب الطاولة على ترمب وصفقته، ويضع الجميع، عرباً ومسلمين قبل الامريكيين و"الاسرائيليين" والعالم بأسره، أمام أمر واقع جديد، ليتعاملوا معه حينها كيفما شاؤوا .. فلا أسوأ مما كان، بما سوف يكون، وبعدها .. لنترك الأجيال القادمة تقرر مصير فلسطين، بعد أن فشلنا نحن في تقرير مصيرها ومصيرنا.
خاتمة : مع المحتل .. وحدها البندقية من تتقن لغة الحوار والتفاوض.