يستعصي المشهد السياسي الأردني على الفهم وفق قواعد المنطق السليم، ويفتح شهية المخيلة للجنوح نحو تفاسير قد تكون مغلوطة، أو في مكانها الصحيح تماماً ..
وفي الوقت الذي يمر به الشارع بمرحلة تذمر وسخط غير مسبوقتين، تجاوزت حدتها مرحلة الربيع العربي، جراء سياسات، وقرارات اقتصادية لاذعة، اكتوى بلظاها المواطن الأردني الذي لم يسبق له المرور بأوضاع معيشية خانقة كالتي يمر بها الآن، أخرجته عن طوره إلى الشارع غاضباً بصورة غير تقليدية.. يخرج علينا بعض المسؤولين كل يوم وآخر، بتصريحات استفزازية، تزيد من حدة الاحتقان الشعبي، وتسهم في بقاء الشارع مستنفراً ساخطاً ..
تصريحات لمسؤولين كبار، تصدر في الزمان والمكان الخاطئين، بعيدة كل البعد عن حسابات ردود الأفعال، يوضع تحتها عشرات علامات الاستفهام، حول غايتها، وجدواها، وهل تصنف في خانة الجهل والحماقة السياسية، أم أنه يتم الادلاء بها بشكل مقصود ؟ .. لا أدري، حقيقة لا أدري ..
هل يعقل أن يتفوه بعض المسؤولين في الدولة يومياً، بتصريحات مستفزة لشارع مستفز أصلاً، وتسهم في تأليب الناس، ومن المستفيد منها ؟ ولماذا يتم الادلاء بها ؟ في وقت بتنا فيه نعيش بحالة غير مسبوقة من القلق والخوف على وطننا.
فما أن تناسينا حدوتة "الغنم" ، و"المسخمين"، وغضبنا على وقف اعفاءات مرضى السرطان، عقب موجة قرارات رفع الاسعار والضرائب التي الهبت الشارع، لتخمد هبة التفاعل الغاضب تارة، يخرج علينا مسؤول بتصريحات استفزازية جديدة ، تعيد ايقاع التوتر مجدداً ومجدداً.
مسؤول يلوّح بقبضة حديدية، وآخر يجيّر مطالب مزارعين معتصمين الى البنك الدولي للرد عليها، مستنفراً خلق الله، لينفيها، ثم يعود لتأكيدها وزير آخر !؟
نائب يكشف عن مخصصات أحد المسؤولين التي بلغت قيمتها ألف دينار يومياً، لنائب آخر يتهم وزير داخلية أسبق بمنح صاحب اسبقيات جواز سفر دبلوماسي، لثالث تصوره الكاميرات وهو يعتدي على عامل غلبان، لرابع يطلب من المواطنين الغاضبين من رفع الاسعار بالتوجه للعلاج في الصيدليات، وبعدها نسأل من يستفز المواطنين ؟، ومن يدفعهم للخروج غاضبين الى الشارع ؟
رئيس حكومة يحث على ترشيد الاستهلاك، يلطمه عقب ساعات تسريب لكتاب موقع منه شخصياً قبل شهور، بمنح رؤساء البلديات مركبات بعشرات الاف الدنانير .. لمسؤول كبير آخر يغلق أبواب مكتبه على نفسه، ويرفض لقاء نواب وأعضاء مجالس محافظات، للبحث في شكاوى مناطقهم، لوزير يتحفنا باعلان أن الحكومة تعمل حالياً للاقتراض مجدداً من البنك الدولي، الذي يلعن المواطنون الساعة التي لجأت فيه حكوماتنا اليه ..
تصريحات ثانية لرئيس الحكومة تلقفتها منصات الاعلام الاجتماعي، بسخرية وغضب واستهزاء، يصف فيها الوظيفة العامة بانها "معونة وطنية"، متناسياً أن أهم قطاعات العمل في الدولة الأردنية من الموظفين الحكوميين، حتى هو كرئيس للوزراء وطاقم وزارته، ينطبق عليهم كموظفيين صفة "المعونة الوطنية" ؟!
يتفاعل الشارع مجدداً مع هذا المشهد العصي على الفهم، والذي يوحي بأن الاردنيين في وادٍ، وحكومتهم في وادٍ آخر، ليطلع علينا بالأمس، نائب رئيس وزراء منظّر سابق، تسلّم بنفسه الملف الاقتصادي لحكومة الملقي، منتقداً الاداء الاقتصادي لحكومة الملقي!، وكأنه كان نائباً لرئيس حكومة دولة في جزر البلطيق، حين كانت القرارات الاقتصادية ذاتها تقرّ بأمرته من الدوار الرابع.!؟
رأس هرم الدولة يفتح قنوات علاقات عامة، ويجوب عواصم دول ساعياً لاستقطاب مشاريع واستثمارات قدر استطاعته وجهده، وهي وظيفة الوزراء والحكومة أصلاً، الذين لم نلحظ لواحدهم بادرة نوعية استثنائية خلاقة، ويكتفون بالقرفصاء على مكاتبهم التي لا يغادرونها الا لمنازلهم الفاخرة بمركباتهم الفارهة، بدلاً من الخروج صوب العالم، وتجنيد أنفسهم واوقاتهم وطاقاتهم لتوفير كل السبل المتاحة وغير المتاحة وتطويع المستحيل، للاسهام بتخفيف اعباء دولتهم الاقتصادية التي تمر بتحديات استثنائية، تحتاج الى قياديين استثنائيين لا موظفين فارغين من أي ابداع خلاّق ومبادرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه .. لو تحولت بعض الوزارات، الى شركات ومؤسسات خاصة، يملكها الوزراء المكلفون بها حالياً، هل كانت حماستهم وانتاجيتهم وسعيهم لانجاحها بكل الطاقات والسبل، ستكون مثلما هي جهودهم الان، كموظفين مكلفين بحقيبة وزارية حكومية يتقاضون منها راتباً شهرياً والسلام ؟
السؤال لا يحتاج الى إجابة ..