مع ظهور نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية، صب كثير من المعلقين جام غضبهم على مؤسسات استطلاعات الرأي العام التي لم يكد يُظهر واحد منها احتمالية فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب. لكن الحقيقة أن تلك المؤسسات لم تفشل بهذا الشكل الصارخ إلا بسبب الإعلام؛ وتحديداً الإعلام الليبرالي الداعم للانفتاح والتسامح، نقيضاً لخطاب ترامب!
فمع الاتفاق مع ما ذهب إليه كثيرون بتفسير النتيجة النهائية المناقضة لغالبية استطلاعات الرأي العام بـ"عامل برادلي"؛ أي إخفاء ناخبين لموقفهم الحقيقي خلال الاستطلاعات، وإظهاره في غرفة الاقتراع، يظل السؤال هنا: لماذا؟ والإجابة ببساطة هي تركيز غالبية الإعلام -تحذيراً وتوعية- على مواقف ترامب العنصرية والمهينة للنساء وصولاً إلى فقره السياسي الحاد. وبحسب موقع "ويكيبيديا"، فقد بلغ عدد المطبوعات المؤيدة للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون (صحف يومية وأسبوعية ومجلات، إضافة إلى مطبوعات جامعية ودولية) 500 مطبوعة، مقابل 26 مطبوعة أعلنت تأييدها لترامب. يضاف إلى ذلك 32 مطبوعة دعت إلى عدم التصويت للمرشح الجمهوري، مقابل مطبوعة واحدة دعت لذلك في حالة كلينتون، من دون إعلان تأييد مرشح محدد.
بعد ذلك، يكون السؤال الأهم: لماذا أصر الجمهوريون خصوصاً، وسواهم، على التصويت لترامب رغم مواقفه وأخطائه وخطاياه التي بدت قاتلة، كما في حالة شريط الفيديو البذيء الذي تباهى فيه بقدرته على فعل ما يشاء مع النساء لأنه مشهور، ما استدعى توقع إنهاء حملته الرئاسية حتى من قبل بعض الجمهوريين؟ بل وتُظهر نتائج التصويت (غير النهائية حتى الآن)، بحسب معهد "بيو"، أن ترامب نال أصوات 42 % من النساء، وبما يقترب مما ناله المرشحان الجمهوريان السابقان ميت رومني في العام 2012 (44 %)، وجون ماكين في العام 2008 (43 %).
ويتجلى ما قد يبدو منتهى التناقض بأخذ حقائق أخرى بعين الاعتبار. أبرزها، أن المجتمع الذي اختارت غالبيته رئيساً أسودَ وابن مهاجر مسلم عامي 2004 و2008، يختار الآن (ليس بالغالبية العامة التي كانت من نصيب كلينتون، بما يزيد على 62 مليون صوت، مقابل حوالي 61 مليون صوت لترامب) رئيساً لقي الدعم من جماعة "كو كلاكس كلاس" المؤمنة بتفوق العرق الأبيض. كما أنه المجتمع ذاته الذي بدا أنه مستعد ليس فقط لاختيار أول امرأة رئيسة للولايات المتحدة، بل أيضاً وأهم اختيار أول رئيس يهودي (بيرني ساندرز)، أو أول رئيس لاتيني (ماركو روبيو، وربما تيد كروز)، ناهيك عن أول رئيس من طائفة "المورمون" قبل أربع سنوات (رومني).
إلا أن كل النماذج السابقة الراقية في التسامح والانفتاح والاندماج، يمكن النظر إليها باعتبارها عوامل أدت إلى تماسك غالبية الأميركيين البيض خلف ترامب باعتبارهم قاعدته الأساس، رغم كل ما قيل في ذمه. وهنا تبدو القضية الأهم في فوز ترامب.
فترامب، بحسب "بيو"، نال نسبة 58 % من أصوات الناخبين "البيض غير اللاتينيين" (مقابل 37 % لكلينتون)، وبما يكاد يتطابق مع ما ناله (الجمهوري) رومني العام 2012 (59 %) في مواجهة أوباما (39 %). فأين الخلل؟ بحسب شبكة "سي. إن. إن"، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة 55.4 %، وهي الأقل منذ العام 1996 (53.5 %). ومن المنطقي توقع أن المستنكفين هم من الديمقراطيين (أنصار ساندرز خصوصاً)، وغير المؤيدين عموماً لترامب.
هكذا تكون الخلاصة أن صيانة التسامح والانفتاح يمثل عملية متواصلة مهما تقدمت المجتمعات وبلغت المؤسسية فيها. وهي عملية لا تستدعي الرعاية والانتباه فقط على المستويات الإعلامية والثقافية، بل أيضاً الاستجابة لمخاوف (أو مظالم) الفئات المجتمعية، كما في حالة البيض المنتمين للطبقة العاملة الذين حملوا دونالد ترامب إلى البيت الأبيض خلافاً لكل التوقعات المنطقية.