ونحن نفاخر بما وصلت إليه «الإدارة الأردنية» في بعض أجهزة الدولة من تقدم جعل بعض الحكومات الشقيقة ترسل لجاناً لدراستها والاستفادة من تجربتها، فإن الإنصاف يقتضينا أن نعترف بأن جزءا من هذا النجاح يعود الفضل فيه لمسؤولين نعرفهم بالاسم، عملوا بعقول متفتحة وعزائم صادقة بغرض التسهيل على المواطنين دون اخلال بالقوانين والأنظمة ودون محسوبية او محاباة، لكننا بالمقابل لا نستطيع ان نغمض أعيننا عن أجهزة حكومية أخرى ما زالت مكبلة بالبيروقراطية القديمة وعيوبها الجمة رغم جهود لجان التطوير الإداري العديدة التي شكلتها الحكومات في العقود الثلاثة الأخيرة ورغم استحداث وزارات بقضها وقضيضها كوزارة التنمية الإدارية ووزارة تطوير القطاع العام ورغم الجهود التي يبذلها ديوان الخدمة المدنية ومعهد الإدارة العامة ورغم المعونات المالية التي تغدقها علينا دول الاتحاد الأوروبي وسواها لعقد ندوات ودورات تدريبية وإرسال البعثات لدراسة علوم الإدارة في الخارج، وتبعاً لذلك لا انوي التعرض لكل تلك العيوب فذلك فوق قدرتي، بل سأختار اليوم واحداً منها هو الفوضى الضاربة في حفظ الملفات او الأرشفة وكأنها ليست مهمة كمرجع ضروري للمتابعة وتقييم النتائج وتحسين الأداء فضلا عن أنها المعين الذي لا يستغني عنه الباحثون والمؤرخون للحصول على ما فيها من معلومات وأرقام ووثائق شريطة ان لا تكون رديئة المستوى والمحتوى أو طالتها يد التحريف والتزوير علماً بأن آلافا منها قد اختفت تماماً إما بسبب الإهمال أو بموجب نظام الإتلاف طوال تاريخ المملكة فلقد شهدت بنفسي مؤخراً فداحة ذلك في وزارة الصحة وأنا ابحث عن ملفات المجلس الصحي العالي ووثائقه ومحاضر اجتماعاته وقراراته ودراساته منذ إنشائه في عام 1966 (في عهد حكومة وصفي التل) وحتى أواخر التسعينات فاكتشفت أنها مفقودة وان أقدم وثيقة ما زالت محفوظة (!) لم تكن تحمل تاريخاً لكن وقائعها تدل على أنها محضر اجتماع للمجلس في النصف الثاني من عام 1997 برئاسة رئيس الوزراء دون ذكر اسمه ولا أسماء باقي الأعضاء من وزراء وسواهم وفيها معلومات غير صحيحة تلغي ثلاثين عاماً من تاريخه لا بل تبدو مضحكة إذ تقول عن هذا الاجتماع إنه الرابع للمجلس منذ تأسيسه ، الأول في 11/ 2/ 1982 والثاني في 17 /9/ 1996 والثالث في 5/ 7/ 1997 مع أني اعلم علم اليقين انه اجتمع في عام 1986 وحده ثلاث عشرة مرة وذلك بعد صدور نظامه المعدل رقم 29 لسنة 1986 الذي استعادت فيه وزارة الصحة رئاسة المجلس بموافقة رئيس الوزراء نفسه (السيد زيد الرفاعي) لاقتناعه بأن المجلس يصبح أكثر قدرة على العمل والانجاز.
أما ما دفعني لفتح موضوع الإدارة وهمومها المحزنة في هذا الوقت فهي الصدفة البحتة إذ طلب مني صديق يؤلف كتاباً عن تاريخ المستشفيات في المملكة ان أزوده بما اعرف من معلومات عن إنشاء مستشفى الملك عبد الله( المؤسس) وما أحاط به من ظروف وملابسات لان قرار التوصية بإنشائه في الأصل كان قد صدر عن المجلس الصحي العالي في أواخر آذار 1986حين كنت رئيساً له وبحضور أعضائه الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم العالي والدكتور عبد السلام المجالي رئيس الجامعة الأردنية والدكتور عدنان بدران رئيس جامعة اليرموك والدكتور داود حنانيا مدير الخدمات الطبية الملكية والدكتور حسن خريس نقيب الأطباء والدكتور سليمان الصبيحي وكيل وزارة الصحة كمقرر كما حضره الدكتور عبد الله النسور وزير التخطيط لإعطاء رأيه في إمكانية التمويل الخارجي للمشروع، وقد رأيت توخياً للدقة ألا اكتفي بالاعتماد على ذاكرتي بل أن أعود لملفات المجلس نفسه فكانت صدمتي كما ذكرت آنفا.
وبعد.. فلن اروي هنا باقي قصة إنشاء مستشفى الملك عبد الله كما عرفتها وكتبتها لصديقي فهي الآن أمانة بين يديه لكني أشير فقط إلى أن قرار المجلس الصحي العالي بإنشاء مستشفى تحويلي واحد في شمال المملكة بدل ثلاثة ( لكل من وزارة الصحة وكلية الطب في جامعة اليرموك ومدينة الحسين الطبية للخدمات الطبية الملكية) لم يوفر على الدولة مبالغ كبيرة كان من المستحيل أصلا تأمينها بل جعل المشروع الواحد ممكناً وقد أقيم بالفعل وبصعوبة، وان في موقع آخر غير الذي أوصى به المجلس.