لولا فضيلة النقد الذاتي لبقيت مجتمعات العالم كلّها في طور واحد لا يعقبه سوى التحجر، تماما كما تتحجر الكائنات المائية عندما يتركها البحر في المد والجزر على الشطآن، لكن هذه الفضيلة ليست مجانية او ميسورة فهي تشترط اولا وعيا بالذات وبالآخر كما تتطلب ادراكا للنقصان وتشخيصا للأخطاء قبل ان تستفحل، فتأخذ الناس العزّة بالاثم وينتحرون وهم لا يعلمون، فما من وباء فتك بدول وامبراطوريات اشد من ذلك الوباء الذي يوهم ضحيّته بالمعصومية والاكتمال، بأنْ تكتفي بذاتها وتتصور انه ليس بالامكان افضل مما كان، والحضارات التي نجت من هذا الوباء هي تلك التي عرفت كيف تراجع نفسها وترصد نقاط ضعفها ومن ثم تحاصر اوهامها كي تفرز غثّها من سمينها وقمحها من زوانها، لكن ذلك يتطلب غربالا صارما ومشدودا لا ترتخي ثقوبه، والذي اطلقه الراحل ميخائيل نعيمة عنوانا على احد كتبه، تعبيرا عن دوره في النقد .
حتى الافراد عندما ينقصهم هاجس المراجعة ونقد الذات يتوغلون في اوهامهم ويرون القليلَ لديهم كثيرا ويسعون الى تجميل كل قبيح وتسود النسبيّة منظومة القيم والمفاهيم لديهم، ويقارنون انفسهم دائما بالادنى والأفقر والأسوأ، ويرون قردهم غزالا، الى ان يفوت الأوان ويصبح التدارك مُحالا .
نقد الذات ليس تقريعها او التلذذ الماسوشي بهجائها كما حدث في اعقاب حزيران 1967، انه مُعاينة موضوعية لواقع يعاني من خلل، ولمفاهيم ينقصها المنطق او افقدها التاريخ صلاحيتها، وهناك دول تعلمت من الهزائم كي تعيد النظر بكل ما مارسته في حياتها، منها اليابان وروسيا والمانيا، وما كان لأي من هذه الدول ان تنهض من الكبوة لولا نقد الذات وتحرير مفاهيم بائدة من القداسة التي تحظر على الناس الاقتراب من تخومها .
في الوطن العربي حاول مثقفون وباحثون في علمي النفس والاجتماع بثّ هذا الوعي بعد حزيران، وفي مقدمتها د. صادق العظم في كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة، لكن سرعان ما انحسرت الموجة وغلب الطبع التطبع و»عادت حليمة لعادتها القديمة» في مديح الذات وتبرئتها من أيّة شائبة .
ان هذه المهمة الحضارية العسيرة والتي لا تليق الا بمجتمعات اوتيت من فضائل الاعتراف ما يصونها من تكرار الاخطاء تقع على عاتق النُّخب اولا، فهي الأدرى بشعاب الذات المقهورة والجريحة من غيرها، لكن من يُناط بهم هذا الامر هم ابعد الناس عن نقد الذات في عالمنا العربي؛ لأنهم عور في بلاد العميان ويزهون بأجنحة دجاجية تعوقهم عن المشي ولا تطير !