من أحد أركان بيتها يصدح "غرامافون" بصوت أم كلثوم تغني "عمري ما أشكي من حبك مهما غرامك لوعني".
تقول رنيم العفيفي، وهي باحثة نسوية مصرية زرتها في منزلها، إن أم كلثوم استطاعت في أغنية "إنت الحب" أن تعبر عن حبها لكن دون قهر. حتى أنها تضيف أن أم كلثوم هي المرأة العربية الوحيدة" التي استطاعت أن تمزج بين الحب والقوة.
الباحثة الشابة لديها مشروع صحفي إليكتروني تسعى فيه لتحليل الأعمال الفنية المختلفة من وجهة نظر نسوية.
تساءلت إذا ما كانت الأجيال السابقة تنظر أيضا لأم كلثوم على أنها امرأة حرة متمردة، فعدت إلى من سبقت رنيم في البحث النسوي بأجيال عدة وهي الكاتبة المصرية نوال السعداوي ذات الثمانية والثمانين عاما التي قالت "جزء من شخصية ثومة كان متمردا، لكنها لم تستطع أن تعلن ذلك مجتمعيا لأنها كانت تريد أن تمسك العصا من المنتصف حتى لا تغضب أحدا".
نشأت "أم كلثوم" في قرية بمحافظة الدقهلية المصرية، وانتقلت بعدها للعاصمة القاهرة - كان هناك فارق في مدى التمدن بين البقعتين لكنهما كانا وربما لا يزالان يشتركان في أن الحب يعتبر "عيبا" للرجال والنساء.
والد ثومة
ورغم اختلاف الجيلين اللذين تنتمي له الباحثتان، لكنهما اتفقتا على أن أبيها كان بطلا محوريا في مسعاها نحو البحث عن الحرية.
تقول د.نوال: "إن تمردها الجزئي بخروجها من القرية إلى المدينة وترك الإنشاد الديني لم يكن قرارا إراديا ذاتيا بل كان مدفوعا بأب ثائر متمرد ساندها"، أما رنيم فرأت أن "ثومة" كان يمارس عليها "سلطة أبوية سواء للإنشاد أو الغناء فيما بعد.
لكن لقاء أم كلثوم في بداياتها مع الشيخ زكريا أحمد كان لقاء فارقا في نظر رنيم، التي وصفته بأنه بداية لـ "حرية الاختيار"؛ حيث أقنع الشيخ زكريا والدها بالانتقال إلى القاهرة وترك الإنشاد وبدء الغناء حتى وصلت "أم كلثوم" إلى لحظة وفاة والدها التي مكنتها، وفقا لرنيم، من إدارة عملها بنفسها والتخلي عن الوصاية الأسرية.
طرحت أم كلثوم العديد من التساؤلات عن الحب : "هو صحيح الهوى غلاب؟"، لتجيب "ماعرفش أنا!"، لذا ينظر إليها بأنها المرأة العربية التي تغنت للحب بشكل مجرد على مستويات عدة، والكل - رجالا ونساء - من "سميعة ثومة".
لذا اخترت أن أنتقي اثنين من الفنانين الرجال لكي أرى الحب الكلثومي من جانبهم.
كانت وجهتي أولا المغرب العربي حيث ذهبت ثومة إلى تونس والمغرب في نهاية الستينيات وصفقوا لأغنيتها "فكروني" التي سألت فيها "فكروني إزاي هو أنا نسيتك؟".
سألت الموسيقي الجزائري سمير بوكريديرة، رئيس الجوق الوطني للموسيقى الأندلسية، عن رؤيته كرجل عربي للحب عند ثومة فقال: "لا أستحي أبدا أن أستمع إلى أم كلثوم وأتنهد تنهيدة الحب فماذا يعيبني كرجل في ذلك أنها ثومة".
أما د. الماحي سليمان، نائب العميد السابق لكلية الموسيقى بالعاصمة السودانية، فقال إنه يتحيز حبا لقصيدتها الغنائية "أغدا ألقاك؟!" لأن من كتبها هو ابن بلده "الهادي آدم"، واصفا غناء ثومة بأنه "غناء للإنسان".
الآنسة - الست
تزوجت أم كلثوم لأول مرة بعد أن تخطت الخمسين.
كلمة "الست" مجتمعيا ترتبط دوما بتعبيرات مثل "ست الحسن"، أو "ست أبيها" كما أن لها علاقة بأسطورة "إيزيس وأزوريس" الفرعونية حيث الإله "ست" الذي يتخذ رمزا للقوة والعزم.
واستخدام "الست" ليكون لقبا لأم كلثوم وحدها قد يعكس أنها "الست" التي تمزج بين الذكر والأنثى معا ليس كنوعين اجتماعيين بل كصنفين إنسانيين تجمعها شخصية واحدة ألا وهي "ثومة".
وكان لقب "الست" متجاوزا للعادات والتقاليد العربية والمصرية فهو لقب يختلف عن "السيدة"، فالـ "الست" أقرب لمعنى القوة والغلبة أكثر منه للتعبير عن الأنوثة والدلال.
تقول نوال السعداوي: "إنها في زواجها كانت متمردة لأنها لم تستسلم لأي ضغوط لزواج مبكر".
التقيت بالملحن المصري الشاب "أحمد جنيدي" الذي يعتبر أن جزءا من حرية "أم كلثوم" كان تعبيرها عن "سلطتها" داخل العلاقة العاطفية ضاربا المثل بأغنيته المفضلة "هجرتك" التي وصفها بأن "ثومة" كانت العربية الوحيدة التي تستطيع حينها أن تدير العلاقة وتقول لشريكها بملء الفم "هجرتك يمكن أنسى هواك".
أما رنيم العفيفي، التي تقارب جنيدي في العمر، فترى "الست" من منظور آخر إذ تقول "إن نعتها بالست بعد الآنسة له علاقة بإلصاق صفة الطهارة والإجلال والمثالية على شخص أم كلثوم".
ويرى جنيدي ملمحا آخر من ملامح حرية "الست أم كلثوم" والذي ظهر في طقطوقات غنتها في عشرينيات القرن الماضي مثل "تبيعيني ليه"، قائلا: "كانت من الجرأة في هذا التوقيت أن تغني بصيغة المذكر دونما اكتراث بأي حكم مجتمعي وهذا قد يرجع إلى أنها تحب الفن للفن".
الطقطوقة أو المونولوج هي لون من ألوان الموسيقى الشرقية، ومن بين المطربات الفلسطينيات المهتمات بالبحث في التراث الغنائي العربي وخصوصا الفلسطيني "سناء موسى" من مدينة رام الله ولطالما غنت مونولوجات أم كلثوم، وقالت: "أعتبر غناء ثومة للمونولوج شكلا من أشكال حريتها الفنية فهي كانت من الجرأة أن تغني هذا الشكل الغنائي المكثف المعقد في لحنه".
وأكدت سناء موسى أن قوة أم كلثوم تجسدت في أنها الوحيدة التي استطاعت ان تجمع تبرعات لمؤسسة مصرية عربية بحجم الجيش المصري، "هذا فعلا لا يأتي إلا من كوكب الشرق".
وهذه الخطوة من جانب أم كلثوم، وفقا لسناء موسى، كان لها علاقة بحالة "المجد" التي وصلت لها ثومة آنذاك ليس فقط مصريا بل عربيا.
ودفعت شعبية أم كلثوم العابرة للطبقات الاجتماعية إلى وصفها بأنها موازية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
وفي فترة ما يعرف بالربيع العربي التي بدأت عام 2011 انطلقت ثورة في تونس ثم مصر وبدأت صور أم كلثوم تظهر في قلب ميدان التحرير مرافقة لهتافات "عيش ..حرية ..عدالة اجتماعية".
حكت لي رنيم العفيفي عن مظاهرة نظمت عام 2011 وتحديدا يوم المرأة العالمي 8 مارس/آذار حيث انطلقت هتافات لنساء مصريات رافعين صورة "أم كلثوم" مرددين "صوتك ثورة".
وحتى في معرض المطالبات بإسقاط الولاية عن المرأة في السعودية، نشر فيديو لأم كلثوم وهي تغني الأطلال وتحديدا الجملة الأشهر "اعطني حريتي أطلق يدي"، وتم تداول الفيديو لأيام عديدة ولآلاف المرات.
في قصيدتها الغنائية "هذه ليلتي" التي كتبها الشاعر اللبناني "جورج جرداق" تقول كوكب الشرق أم كلثوم " تعال أحبك الآن الآن أكثر" مؤكدة على معنى "الآن"، ودوما ما يقال في الثقافة البوذية وغيرها من الفلسفات الروحانية القديمة إن السعي نحو الوصول لقوة "الآن" أي اللحظة الحاضرة هو بالأدق سعي للوصول نحو الحرية.