تشهد قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) واقعاً ميدانياً مُتغيراً في مناطق انتشارها وتواجدها، بعد العملية العسكرية البرية الإسرائيلية المُتركزة في المناطق الحدودية مع لبنان، ومع تعرض مهامها لاتهامات طرفي الحرب بالتساهل مع الطرف الآخر، وتعرض مواقعها لسلسلة من الهجمات الإسرائيلية المُوثقة، وهو ما انعكس في مزيد من التعقيد أمامها لممارسة مهامها، ووضعها وسط مجموعة من تحديات أمنية وسياسية أوسع، لا سيما أن أدوارها المتفق عليها منذ عام 2006، أصبحت عُرضة للتغيير مع التحول في موازين القوى والوقائع الجغرافية على الأرض. وفي ضوء هذه الأحداث، تزداد التساؤلات حول مستقبل هذه القوات وفاعليتها، والخيارات المتاحة أمام المجتمع الدولي لضمان استمراريتها أو تعديل تفويضها. وعليه تهدف هذه الورقة إلى تناول السيناريوهات الممكنة لمصير قوات اليونيفيل من حيث دورها ووجودها.
نشأة قوات اليونيفيل وأدوارها
تأسست قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) في مارس 1978 عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان حينها، واستمدت تفويضها من مجلس الأمن الدولي، والذي وسع مهامها وتفويضها لاحقاً استجابة للمتغيرات الميدانية جراء استمرار التوترات السياسية والتصعيدات العسكرية على الحدود بين حزب الله وإسرائيل. وفيما يلي قرارات مجلس الأمن الدولي التي يستند لها الوجود القانوني لقوات اليونيفيل:
1- قرار مجلس الأمن 425 لعام (1978): وهو قرار التأسيس لليونيفيل كقوة حفظ سلام مؤقتة في لبنان، والذي جاء بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1978. ووفق ذلك جرى تكليف القوات بمهام تأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية، واستعادة السلم والأمن في المنطقة، ومساعدة الحكومة في استعادة سلطتها الفعلية على جنوب البلاد.
2- قرار مجلس الأمن 426 لعام (1978): وهو قرار صدر بعد فترة قصيرة من قرار التأسيس، لتحديد الهياكل الإدارية والتنظيمية الرسمية لليونيفيل التي جرى وفقها نشر القوات وتحديد مهامها العملياتية في الجنوب اللبناني، مع صياغة أطر التنسيق بينها وبين القوات اللبنانية.
3- قرار مجلس الأمن 1701 لعام (2006): وهو القرار الذي صدر عقب حرب تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل، الذي وسّع تفويض قوات اليونيفيل ليشمل زيادة عدد القوات الدولية وتقديم الدعم للجيش اللبناني، ومنع تهريب الأسلحة، إضافة إلى الحفاظ على وقف إطلاق النار.
أمّا من حيث جغرافية انتشار اليونيفيل، فتتخذ القوات من بلدة الناقورة في جنوب غرب لبنان مقراً لها، وتشغل 50 موقعاً، تنتشر على مساحة تبلغ 410 ميل مربع، ما بين نهر الليطاني شمالًا وصولاً إلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية أو ما يعرف بـ"الخط الأزرق"، وهو الخط المؤقت الذي حددته الأمم المتحدة عند الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني عام 2000، وطوله 120 كم، يفصل لبنان عن إسرائيل وهضبة الجولان، وتنتشر عناصر اليونيفيل على طول الخط لضمان عدم انتهاكه، ويمثل اجتياز أي من الحكومتين اللبنانية أو الإسرائيلية غير المصرح له (براً أو جواً) خرقاً لقرارات مجلس الأمن.
ومن الغرب تنتشر بحرياً على امتداد الساحل اللبناني حتّى الحدود الجنوبية الشرقية باتجاه مزارع شبعا، حيث تنتشر قوة اليونيفيل البحرية على امتداد الساحل اللبناني منذ أكتوبر 2006، وتتكون تلك القوة من خمس سفن بحرية لدعم القوات البحرية اللبنانية في مراقبة وتأمين السواحل اللبنانية ومنع تهريب الأسلحة عن طريق البحر.
ويتجاوز عدد قوات اليونيفيل 10 آلاف جندي، من 50 دولة مساهمة بقوات في البعثة، أبرزها وأكثرها من حيث العدد إيطاليا وإندونيسيا بما يزيد عن ألف جندي لكل منهما، كما تحظى القوات بميزانية سنوية تبلغ نصف مليار دولار، ويصوت مجلس الأمن في الأمم المتحدة (المؤلف من 15 عضوا/ 5 منهم دائمين) سنوياً على تمديد ولاية البعثة.
التحديات الحالية التي تواجه بعثة اليونيفيل
في ظل التصاعد المستمر للتوترات الأمنية والسياسية على الحدود اللبنانية مع إعلان الجيش الإسرائيلي بدء الاجتياح البري في جنوب لبنان في 30 سبتمبر 2024، تعود إلى الواجهة أهمية ودور قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) كأداة دولية لحفظ السلم والاستقرار في لبنان، والتي تجد نفسها اليوم أمام تحديات متعددة في ظل التغيرات الميدانية المستجدة، وتزايد الضغوط عليها مع ارتفاع التهديدات الأمنية لأفرادها ومواقعها. إذ شهدت قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) سلسلة من الهجمات الإسرائيلية، من بينها إصابة جنديين من قوات حفظ السلام في لبنان جراء استهداف الجيش الإسرائيلي برج مراقبة لليونيفيل في 10 أكتوبر، وفي اليوم التالي استهدفت القوات الإسرائيلية مقر الكتيبة السريلانكية التابعة لليونيفيل في جنوب لبنان، مما أسفر عن إصابة عسكريين من القوة، وبالمجمل أعلن المتحدث باسم اليونيفيل أندريا تيننتي، أن القوة "استهدفت أكثر من 50 مرة خلال شهر أكتوبر "، وقد دفعت تلك الاستهدافات إلى إدانات دولية واسعة.
إلى جانب ذلك؛ تعرضت بعثة اليونيفيل لاتهامات مُتكررة من قبل أطراف الصراع، إذ تُتهم من قبل إسرائيل بالفشل في منع حزب الله عن النشاط العسكري على طول الحدود، وكذلك في منع الحزب من التموضع وإنشاء بنية تحتية عسكرية له بما يشتمل على مستودعات ومخازن أسلحة، بل ويتهم الجيش الإسرائيلي الحزب بالعمل من المناطق القريبة من مواقع اليونيفيل في الجنوب، وكانت إسرائيل في 10 أكتوبر 2024 قد دعت قوات اليونيفيل للانسحاب بمسافة 5 كم عن شمال الخط الأزرق لتجنب الخطر مع تصاعد القتال، إلا أنّ القوات رفضت وأكدت على البقاء في مواقعها وفق تفويضها الأممي. وبذلك اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منتصف أكتوبر عدم استجابة قوات اليونيفيل لدعوات مغادرة الحدود، باعتبارها تُشكل "درعاً بشرياً لحزب الله"، في المُقابل تعتزم لبنان مساءلة اليونيفيل في قضية اختطاف قوات إسرائيلية خاصة لمواطن لبناني يعتقد بانتمائه لحزب الله من مدينة البترون شمالي البلاد، عبر عملية إنزال بحري، باعتبار اليونيفيل مسؤولة عن مراقبة شواطئ لبنان بحسب وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي، كما نقلت مصادر محلية عن قادة ميدانيين في حزب الله اتهماهم لإسرائيل باستخدام قوات اليونيفيل "دروعاً بشرية".
على الجانب الآخر؛ تعرضت قوات اليونيفيل لهجمات من الداخل اللبناني، إذ أعلنت القوة في 17 نوفمبر عن تعرض إحدى دورياتها لإطلاق نار من الوراء، وفي 19 نوفمبر تعرضت اليونيفيل لثلاث استهدافات من بينها سقوط صواريخ على مقر القوة الإيطالية الابعة لها، وفي الحادثين أشارت القوة أن مصدر النيران "جهات غير حكومية داخل لبنان" ما يُشير ضمناً إلى حزب الله.
سيناريوهات دور مستقبل بعثة اليونيفيل
في ظل التصعيد المتزايد بين حزب الله وإسرائيل، يبقى مستقبل قوات اليونيفيل معلقًا بين عدة خيارات بناء على التغيرات الميدانية والسياسية، والتحديات التي تواجهها القوات في الميدان تبعاً لتطورات الوضع الأمني والسياسي بين لبنان وإسرائيل، بالإضافة إلى موقف المجتمع الدولي وتوجهات مجلس الأمن الدولي. وعليه يمكن تصور السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: استمرار اليونيفيل بالتفويض الحالي
يفترض هذا السيناريو أن تستمر قوات اليونيفيل بالمحافظة على ذات التفويض الأممي الممنوح لها بإبقاء الوضع كما هو عليه بموجب القرار 1701، مع إحداث تعديلات طفيفة على مواقع انتشار أفراد القوات بما يرفع مستوى حماية الجنود وتقليل المخاطر المحتملة، وإمكانية زيادة عدد القوات أو تحسين معداتها لتكون قادرة على التصدي لأي مخاطر محتملة، مع رفع مستوى تنسيقها مع الجيش اللبناني للتعاون في المراقبة الحدودية، لا سيما وأن دول الاتحاد الأوروبي اتفقت في 16 أكتوبر على تعزيز القوات المسلحة اللبنانية بالدعم التدريبي وعبر موارد التمويل الدولي لتساهم مع اليونيفيل في دعم الاستقرار.
ويرتبط تطبيق هذا السيناريو بتوقف الحرب في مرحلة مُبكرة، وقبول الطرفين بالمقترح الأمريكي المُقدم لوقف إطلاق النار، وهو ما يتطلب تسوية مجموعة من القضايا التفصيلية عالية التعقيد، من بينها الإضافات الأمريكية لضمان تطبيق القرار 1701، وذلك من خلال تشكيل لجنة مراقبة تنفيذ القرار 1701 برئاسة جنرال أمريكي وعضوية جنرال فرنسي، ومنح إسرائيل الحرية العملياتية في لبنان لمنع حزب الله من إعادة بناء قوته العسكرية وتنظيم هيكله القيادي، وحقها في الرد في حال انتهك الحزب وقف إطلاق النار. ومن جهة أخرى؛ يرتبط استمرار قوات اليونيفيل بالتفويض ذاته ومواقع الانتشار ذاتها بثبات الواقع الميداني بعد الحرب مقارنة بما قبله، لكن الإجراءات الإسرائيلية على الأرض، ودعواتها المستمرة لانسحاب قوات اليونيفيل مسافة 5 كيلومتر عن الحدود، تهدف لخلق واقع ميداني جديد من خلال إقامة منطقة عازلة على عمق يتراوح بين 3-5 كيلو متر، ولذلك عمدت إسرائيل في عملياتها العسكرية داخل لبنان إلى إخلاء البلدات الحدودية من السًكان، والقيام بعمليات تدمير واسعة وممنهجة فيها، إذ كشفت صور الأقمار الصناعية مطلع نوفمبر، عن عمليات تدمير طالت 11 قرية متاخمة للحدود بحسب وكالة أسوشيتد برس، وينسجم ذلك مع الاستراتيجية التي تنتهجها إسرائيل في قطاع غزة، وكذلك مع طبيعة عملياتها وتكتيكاتها في لبنان، حيث تتبع القوات الإسرائيلية مساراً عملياتياً يرتكز على الإغارة ثُم التراجع والانسحاب بهدف القيام بعمليات تفجير وتدمير بنى تحتية وقرى حدودية ومنشآت عسكرية تابعة لحزب الله، على عكس محاولاتها التمسك بالأرض والحفاظ على مواقع تقدمها في حرب عام 2006.
السيناريو الثاني: توسيع التفويض أو تعديل القرار 1701
يفترض هذا السيناريو تعديل القرار الأممي (1701)، بالتوجه لبناء ثلاث طبقات من الحماية تمتد من الحدود اللبنانية الإسرائيلية وصولاً إلى العاصمة بيروت، وتبدأ بالمنطقة العازلة المُرجح إنشاؤها على عمق 5 كيلو متر، ومن ثم إنشاء شريط أمني على طول نهر الليطاني في الداخل اللبناني، تشرف عليه قوات اليونيفيل، مع توسيع تفويضها عبر منحها دورًا أكثر قوة من حيث تعزيز التفويض العسكري الممنوح لها، مع توسيع مهامها لتشمل مهام أكثر فاعلية بما يشمل منع تهريب الأسلحة أو تموضع حزب الله في مناطق انتشارها، وقد دعا وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في 19 أكتوبر إلى تعزيز تفويض البعثة مؤكداً على أنّ "الوضع الراهن يتطلب دوراً أقوى وأكثر فاعلية لبعثة اليونيفيل"، وما بعد ذلك تكون مساحة ممنوحة للجيش اللبناني تشتمل على المناطق شمال نهر الليطاني ووصولاً للعاصمة بيروت، مع منح القوات الإسرائيلية المشاركة "النشطة" للتأكد من عدم إعادة تسليح حزب الله واستعادة قدراته العسكرية مع المطالبة بحرية عمل قواته الجوية في لبنان والتنسيق الاستخباراتي مع اليونيفيل والجيش اللبناني.
ويرتبط السيناريو هذا، بتعمق الحرب وقُدرة إسرائيل على الإضرار بشدة ببُنية حزب الله العسكرية في الجنوب اللبناني، وتقويض قُدرات وحداته المسلحة على الانتشار العملياتي جنوب نهر الليطاني، وذلك هو المتغير الرئيس الذي يُمكن قوات اليونيفيل والجيش اللبناني من العمل بفاعلية في مناطق انتشارهما ومهامهما، لا سيما تجاه منع إعادة تسلح حزب الله، وتقل احتمالات هذا السيناريو في حالة قُدرة حزب الله على الحفاظ على مواقعه في الجنوب ومنع الجيش الإسرائيلي من التوغل عملياتياً بما يتجاوز حدود أنشطته الحالية بعمق 3-5 كيلو متر على الشريط الحدودي، بالإضافة إلى متطلب الحصول على تفويض جديد من مجلس الأمن، وهو ما قد يُواجه بفيتو روسي أو صيني.
السيناريو الثالث: انسحاب بعثة اليونيفيل أو تحول أدوارها
يفترض هذا السيناريو انسحاب قوات اليونيفيل من لبنان، بأن تقرر الأمم المتحدة إنهاء مهمة البعثة الأممية بسحب قوات اليونيفيل من لبنان أو تغير أدوارها لتصبح بعثة استشارية وليست قتالية، بحيث يقتصر دورها على تقديم المشورة والدعم غير العسكري للجيش اللبناني، ونقل مهام اليونيفيل والمسؤوليات الأمنية للجيش اللبناني بشكل كامل.
ويرتبط هذا السيناريو بتحقق واحدة من هذه الظروف، والتي من بينها، أولاً: التصعيدات العسكرية بما يعيق قدرة الدول المساهمة في اليونيفيل على حماية جنودها، ويعرض القوات لهجمات متكررة تزيد من المخاطر الأمنية على أفرادها وتلحق أضرارًا كبيرة بالقوات وبشكل يقوض من قدرتها على القيام بدورها بفعالية ويعكس عجزها عن تحقيق أدوارها خاصةً فيما يتعلق بتطبيق قرار الأممي 1701. وثانياً: أن يتعذر تصويت مجلس الأمن على إعادة التفويض عند قرار تجديد ولاية البعثة الذي يطرح سنوياً، وذلك باستخدام أحد الدول الأعضاء لحق النقض الفيتو، نتيجة لخلافات الدول الأعضاء إما تجاه معارضة بعضها تجديد البعثة أو تغيير أدوارها أو تحويلها إلى بعثة استشارية. وثالثاً: قدرة إسرائيل على حسم الحرب مع حزب الله وتشكيل واقع أحادي الجانب في الجنوب اللبناني.