لماذا الخلاف الدائم حول إثبات هلال رمضان؟


لا يزال إثبات هلالي رمضان وشوال يثير الجدل كل عام؛ لأنه يعيدنا إلى ثنائية الرؤية البصرية والحساب الفلكي، وهي ثنائية تبدو مشكلة من الناحية العلمية؛ إذ تقارن بين وسيلتين: إحداهما تقليدية أو بدائية والأخرى علمية، ومن ثم يبدو الأمر كما لو كان مقارنة بين من يؤمن بالعلم ومن يصرّ على التمسك بالوسائل التقليدية لإثبات بداية ونهاية الشهر القمري.

وغرضي في هذا المقال أن أوضح أن هذه الثنائية اختزالية ولا تفي بتعقيدات المسألة محل الجدل، إذ إن الخلاف حول الأخذ بالحسابات الفلكية لا يتصل بتطور أدوات المعرفة، بقدر ما له علاقة بتحديد اختصاصات كلٍّ من الفقيه والفلكيّ أو حقلي اشتغالهما، خصوصًا أن المسألة محل المناقشة هنا لها وجهان: وجه علمي مادي (إثبات ولادة الهلال)، ووجه تعبّدي (فريضة الصوم)، وهو ما يساعدنا على توسيع أفق النظر ومدارك الخلاف الفقهي.

ثمة مدخلان محتملان لمناقشة الخلاف الفقهي حول طريقة إثبات الهلال:

المدخل الأول: يتناول المسألة المختصة بالتمييز بين الوسيلة والمقصد، وأن الرؤية البصرية هنا وسيلة، ويمكن أن تثير النقاش حول ما إذا كانت متغيرة (فيقوم الحساب الفلكي مكانها) أو ثابتة، وما إذا كانت تعبدية (عيّنها الشارع لدخول الشهر) أو عادية إنما ذُكرت لكونها المعهودة لدى العرب في حينه، ولأنها في متناول الجميع؛ أي جارية على الأعم الأغلب، وذلك أن قانون التكاليف الشرعية أنها تجري على الفهم الجمهوريّ بتعبير ابن رشد والشاطبي.

المدخل الثاني: يتناول الحكم الشرعي الوضعي وما يتصل بتفاصيله ومن يختص بالبت فيه، وذلك أن الأحكام الشرعية نوعان: أحدهما: الأحكام التكليفية التي تشمل الأحكام الخمسة المعروفة، وهي: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم. وثانيهما: الأحكام الوضعية التي تتناول سياق تنزيل الأحكام التكليفية السابقة، والتي تشمل ما كان سببًا، أو شرطًا، أو مانعًا، وأضاف آخرون إليها الرخصة والعزيمة، والصحة والفساد، وبعضهم يعتبر الأخيرين أحكامًا عقلية وليست من الأحكام الوضعية. فالحكم الشرعي التكليفي هو أن الصوم فرض على كل مكلف شهد الشهر، والحكم الشرعي الوضعيّ هو دخول الشهر برؤية الهلال الذي من دونه لا يتحقق الحكم الشرعي التكليفي.

لو رأى الهلالَ عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد، لسبب ما (كون شهادتهم غير مقبولة، أو كونهم لم يشهدوا)، كان حكم هؤلاء العشرة حكم سائر المسلمين في الفطر. فمن رأى -وحده- الهلال لا يُفطر إلا مع المسلمين على مذهب الأكثرين؛ لأنهم ألحقوا الفطر بالنحر (أو الصوم بالحج).

والأصل في هذا -كما قال ابن تيمية- "أن الله سبحانه وتعالى علق أحكامًا شرعية بمسمى الهلال والشهر، كالصوم والفطر والنَّحر"، فقال تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" [البقرة: 189]، وقال تعالى: "كتب عليكم الصيام" إلى قوله "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس" [البقرة: 183-185]. أي أن الله تعالى أوجب صوم شهر رمضان، ولكن ينشأ الإشكال هنا من تحديد مفهوم الهلال والشهر لضبط حدود الواجب، ويحتمل لفظا الهلال والشهر معنيين:

المعنى الأول: أنه اسم لما يظهر في السماء وإن لم يَعلم به الناس، وبه يدخل الشهر، أي أنه مرتبط بعلامة فلكية فحسب.

المعنى الثاني: أن الهلال اسم لما يَستهل به الناس، والشهر اسم لما اشتُهر بينهم، أي أنه مرتبط بعلامة فلكية ذات أثر اجتماعي.

فالمعنى الأول يقتضي تغليب الجانب الفردي في العبادة، فمن رأى الهلال -وحده- فقد دخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي من رمضان في حقيقة الأمر وإن لم يعلم غيره بذلك. أما من لم يَرَ الهلال فإذا تبين له أنه كان طالعًا وجب عليه أن يقضي الصوم. ورغم أن القياس يقتضي أن يجري ذلك في شهر الفطر (رمضان) وفي شهر النحر (الحج)، إلا أن ابن تيمية قال: "ما علمتُ أن أحدًا قال: من رآه يقف (على عرفة) وحده دون سائر الحاجّ، وأنه ينحر في اليوم الثاني (أي بعد عرفة)، ويرمي جمرة العقبة، ويتحلل دون سائر الحاج"، أي أن النزاع اقتصر على شهر رمضان دون شهر النحر أو الصوم دون الحج.

والمعنى الثاني يقتضي تغليب الجانب الجماعي في العبادة، فشرط كونه هلالا وشهرا: شهرته بين الناس واستهلالهم به. فلو رأى الهلالَ عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد، لسبب ما (كون شهادتهم غير مقبولة، أو كونهم لم يشهدوا)، كان حكم هؤلاء العشرة حكم سائر المسلمين في الفطر. فمن رأى -وحده- الهلال لا يُفطر إلا مع المسلمين على مذهب الأكثرين؛ لأنهم ألحقوا الفطر بالنحر (أو الصوم بالحج).

في حين ذهب آخرون إلى الربط بين يومي الفطر والصوم (أي بداية رمضان وبداية شوال)، وأن الله تعالى لم يأمر عباده بصوم واحد وثلاثين يومًا؛ فمن أتم الثلاثين وجب عليه الإفطار؛ بغض النظر عن بقية الناس. وعلى هذا لا يكون الشهود في (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتى يمكن تصور شهوده والغيبة عنه، وأنه خطاب للجماعة إن وُجدت، وإلا فمن كان وحيدًا وجب عليه الصوم لغياب الجماعة في حقه.

وبناء على المعنيين السابقين، وفي حالة اعتماد الحساب الفلكي في تحديد مدلول الشهر أو الهلال، نجد أنفسنا أمام مزيد من التعقيد، وهنا لا بد أن نميز مجددًا بين أمرين متغايرين يتم الخلط بينهما عادة، وهما:

الأمر الأول: معيار دخول الشهر القمري أو بدايته بوصفه علامة شرعية (حكم شرعي وضعي)؛ جعله الشارع سببًا لوجوب الصوم (حكم شرعي تكليفي).

الأمر الثاني: معيار دخول الشهر باعتباره علامة فلكية محضة وفق الحساب الفلكي. وينشأ الإشكال هنا من مدى شرعية اعتماد سلطة الفلكي في تعيين الحكم الوضعي (دخول الشهر) الذي هو في الأصل علامة شرعية وفق منظور الفقيه، وإنما يتم تحديدها وفق أدواته المعرفية وبناء على البحث عن "مراد الشارع" المعبَّر عنه بالنصوص؛ لأننا أمام حكم شرعي تكليفي مرتبط بحكم شرعي وضعي.

ثم لو مشينا على الأمر الثاني (الحساب الفلكي)، فسنواجه عدة احتمالات تخص المعيار الذي سنعتمده لتعيين بداية الشهر، والذي يمكن أن يقع الخلاف فيه، وهو الواقع بين بعض الدول التي تعتمد الحساب الفلكي؛ لأن كلا منها يعتمد آلية مختلفة عن الآخر لتحديد البداية، فههنا احتمالان يتيحهما الحساب الفلكي:

الأول: معيار الاقتران بين الشمس والقمر والأرض، وهو ما تعتمده بعض الدول كتونس فيما أعلم.

الثاني: ولادة هلال الشهر والذي تعتمده بعض الدول، ولكن هذه الولادة معرضة -بدورها- إلى ثلاثة احتمالات، وهي: ولادة الهلال بالنهار واختفاؤه قبل الغروب، وولادة الهلال في النهار واختفاؤه بعيد الغروب بمدة وجيزة، وولادة الهلال وبقاؤه بعد الغروب مدة كافية للرؤية. فأي هذه الاحتمالات سنعتمد؟ فهل يُشترط بقاء الهلال بعد الغروب؟ وما مقدار مُكثه؟

ثمة ثلاث طرق: ترى الأولى أنه لا يُشترط بقاؤه بعد الغروب، وترى الثانية مطلق بقاء الهلال بعد الغروب ولو لدقيقة وإن اختفى بعدها، وترى الثالثة أنه لا بد أن يبقى حتى يُرى بأي وسيلة كانت. فلو استعملنا التليسكوب -مثلاً- فالهلال يحتاج إلى نحو 25 دقيقة بعد الغروب حتى يُرى، ولو استعملنا العين المجردة فالهلال يحتاج إلى 30 دقيقة بعد ولادته حتى يُرى.

وبعيدًا عن هذه الاحتمالات وكيفية اختيار أحدها لتحديد بداية الشهر فلكيًّا، فإننا هنا أمام منظورين أو تخصصين مختلفين في إثبات مفهومٍ يرى الفلكي أنه ظاهرة طبيعية، ويرى الفقيه أنه مسألة شرعية، ومن ثم فالفقيه يرى أنه هو المخوّل في تحديد نوعي الأحكام الشرعية: الوضعي والتكليفي؛ لأنهما متلازمان وكلاهما يختص بالبحث عن إرادة الشارع من المكلف، وأن الشارع رتّب وجوب الصوم على رؤية الهلال وليس الاقتران ولا ولادة الهلال فلكيًّا، ثم إننا لو اعتمدنا على الحساب الفلكي في تحديد الاقتران أو ولادة الهلال، فالنتيجة أننا سنعرف -بدقة- توقيت حصول الاقتران أو ولادة الهلال، وهو مجال علم الفلك، ولكن هل سيكون هذا معبِّرًا عن إرادة الشارع الذي جعل العلامة هي "الرؤية"؟ هنا يظهر اختلاف منظور كل من الفقيه والفلكي، والذي يظهر أثره من خلال جملة أمور أذكر منها:

الأول: في حالة نفي إمكان رؤية الهلال، كما حصل غير مرة، حيث يقول الفلكيون إنه يستحيل رؤية الهلال، ومع ذلك تثبت عدد من الدول رؤيته ويثبت الصوم، فالفقيه يرى أن إمكان الرؤية وعدمها خارجة عن أصل صناعة أهل الفلك؛ بخلاف تحديد ولادة الهلال من عدمها. فالرؤية -كما أثبت ابن تيمية- "أمر حسي له أسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره، وارتفاع المنظر وانخفاضه، وحدة البصر وكلاله"، أي أن أسباب الرؤية لا تنضبط بالحساب، قال: "ولهذا كان قدماء علماء الهيئة كبطليموس وغيره لم يتكلموا في ذلك بحرف، وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه"، فلما رأوا الشريعة علقت الأحكام الشرعية بالهلال، لجؤوا إلى الحساب بوصفه طريقا تنضبط فيه الرؤية. قال ابن تيمية: "وليست طريقة مستقيمة ولا معتدلة، بل خطؤها كثير وقد جُرِّب، وهم يختلفون كثيرا: هل يُرى أم لا يُرى؟ وسبب ذلك أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يُعلم بالحساب"، ولكن يبقى السؤال هنا حول تطورات علم الحساب ومقدار اختلافه عما عرفه ابن تيمية في زمنه، وهو أمرٌ يحتاج إلى بحث ونظر.

الثاني: أنه لا تلازم بين رد الأخذ بالحساب الفلكي قديمًا وبين قطعيّته، فقد سلّم عدد من الفقهاء بقطعيته، منهم ابن تيمية الذي قال: "إذا تواطأ خبر أهل الحساب فلا يكادون يخطئون، ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي"، والقرافي الذي قال: "قال سند (بن عنان [ت541هـ]) من أصحابنا (المالكية): فلو كان الإمام (السياسي) يرى الحساب، فأثبت الهلال به: لم يُتْبع؛ لإجماع السلف على خلافه؛ مع أن حساب الأهلة والكسوفات والخسوفات قطعي"، وبناء على هذا الفصل يتنزل تمييز الإمام السبكي بين حالتي النفي والإثبات في اعتماد الحساب الفلكي، حيث رأى الأخذ به في النفي دون الإثبات، وابن دقيق العيد حيث رأى الأخذ به في الإثبات في حالة الغيم فقط لا مطلقًا، وكل هذا يُظهر أن النزاع ليس حول القطعية والظنية وإنما له مأخذ مختلف. ثم إن الظني هنا هو المعيار الذي على أساسه نحدد دخول الشهر المعتبر به شرعًا؛ لوجوب الصوم والفطر، والموازنة بين الحساب وتعذر الرؤية كما في حالة الغيم مثلاً. وظهور القمر للرائي كعلامة لدخول الشهر مقطوعٌ به شرعًا، ولكن العين كوسيلة للرؤية مظنونة ما لم تتواتر الرؤية أو خبرها وتورث اليقين في بلد معين.

الثالث: أن الظنّ بأن الأخذ بالحساب الفلكي سيحسم الخلاف حول إثبات الهلال، ناتج عن غموض تعقيدات المسألة التي سبق شرحها، فضلاً عن أن توهم أن مدار المسألة على تطور أدوات المعرفة وأنه إذا تغيرت الوسيلة أو تطورت وجب الأخذ بها، هو تصور مخالف لواقع النقاشات العلمية على الجانبين: الفلكي والفقهي. فقديمًا نُسب الأخذ بالحساب الفلكي مطلقًا إلى التابعي مُطَرف بن عبد الله الشِّخِّير، ونُقل هذا القول عن بعض العلماء السابقين، منهم ابن قتيبة وابن سريج الشافعي والقفال الكبير الشاشي والقاضي عبد الجبار المعتزلي، كما نُقل عن ابن دقيق العيد الأخذ بالحساب الفلكي في حالة الغيم، وعن السبكي الأخذ به في حالة النفي كما سبق. فهذه الأقوال تعكّر على فكرة التطور التي تحدث عنها بعضهم، أو على ثنائية الأخذ بالعلم في مسائل العبادات من عدمه، أي أن المسألة أشد تركيبًا من هذه الخلاصات العجلى.

ويمكن عزو الخلل في تصور المسألة إلى أمرين:

الأول: غلبة تسييس الدين التي شملت حتى العبادات مع شيوع التصور الحركي السياسي للإسلام، وربط العبادات بالمضامين السياسية لمفهوم الأمة؛ رغم أن السلطة السياسية لم تكن على طول الخط واحدة، وهذا الأمر يحتاج إلى مزيد تفصيل لعلي أعود إليه في مقال مستقل نهاية هذا الشهر الكريم وقبيل عيد الفطر.

الثاني: عدم التدقيق في أبعاد المسألة وتصوراتها فلكيًّا وفقهيًّا، وتحرير مجال اختصاص كل علم؛ حتى توهم بعضهم أن كل ما في الأمر هو أن الفقهاء وقفوا عند ظاهر النص وتمسكوا بالألفاظ دون المقاصد، والله أعلم.