جراءة نيوز - اخبار الاردن -كتب النائب علي السنيد:
لم تزل في خاطري رائحة البيدر، وكيف كنا نركض صغاراً في مثل هذا الوقت من السنة حول تلال صغيرة من القش تغطي مساحات من ارض يابسة يجمع عليها الحصادون ما تحمله ظهور الحمير، ويتم تفريقه على البيادر بعد أن تكون “المناجل” قد حولت السنابل الصفراء الى كتل متساوية من القش تسمى “الغمور” يتم نقلها على التوالي على البهائم الى حيث سيتم درسها بواسطة مجموعة من الحمير يقودها “اللواح” ، وهو الحمار الأكثر نشاطاً، والأكثر تعرضاً لضرب الدراسيين.
وتظل تلف في ساحة البيدر حتى “تطيب الطرحة” وتصبح ناعمة تحت حوافر “الحمير”. وما زلت اذكر طعم الليالي المقمرة التي ينتهز فيها الفلاحون الفرصة لتذرية البيادر فيعرضونها بواسطة المذراة اليدوية الى تيارات هوائية تتسبب بفصل القمح أو الشعير عن مادة التبن، ثم يتم تعبئة المحصول في “الشوالات” ونقله مرة أخرى على البهائم ليصار الى خزنه في المغر أو في البيوت الحجرية القديمة.
اذكر الصاع الخليلي وهو الأول في البيدر، وكان من حصتنا نحن الصغار فنقوم ببيعه، وشراء بعض ما تجود به دكاكين تلك الأيام التي لا يزيد ما يخص الأطفال فيها عن بعض البسكويت والراحة، وقليل من السكاكر. ما زلت اذكر جاروشة الحاج عبدالهادي الضخمة وكان يطلق عليها اسم “البابور” حيث يتم طحن القمح، وتحويله الى مادة ناعمة تستعمل في صنع الخبز، وكنا نجمع الحطب لتوقد الأمهات النار، وترمي بأيد ماهرة رقائق العجين على “الصاج”
فتنطلق رائحة الشراك الأخاذة من خلال البيوت المتقاربة، والتي كانت لا تزيد في معظمها عن غرفتين وحمام صغير منفصل يسمى “الخارج”. بعض البيوت كانت من الطين الخالص، وبعضها من الحجارة، ومنها ما تتكون من غرفة واحدة من الطوب والاسمنت، وكانت البيوت تضاء “بلمبات الكاز” الصغيرة فتترك خيالات تتراقص في المساءآت تنعكس عن ذبالتها التي تستجيب لسطوة الهواء صعوداً ونزولاً، وأما البيوت الأكثر رقياً فكانت تضاء “باللوكس” الذي تستخدم في اشعاله جرار الغاز، وكانت هذه الوسيلة في الاضاءة - الأكثر كلفة- لا تتوفر سوى في بيت الشيخ، وبعض بيوت الأغنياء حيث يتجمع الرجال ليلاً ليمضوا الساعات الطوال في أحاديث شجية تخترق الماضي، وتستحضر السير العطرة لأجداد مضوا محملين بالأحداث وتركوا قصصاً يتداولها الناس بشغف وانشداه.
ولم تكن “مليح” التي لم تعرف طعم الكهرباء بعد تملك سوى تلفزيون أو اثنين يتم تشغيلهما على البطاريات، فيحدث أن يستقطب هذان التلفزيونان معظم سكان القرية لحضور مسلسل بدوي يعرض بالأسود والأبيض، وتصبح ساعة بث المسلسل، ونشرة أخبار الثامنة من أهم الأحداث في حياة قاطني القرية الذين يتوزع كثير منهم على هذين التلفزيونين. كنا نجلس كصغار القرفصاء خلف الحضور، وعلى مسافة بعيدة خوفاً من أن نتعرض للطرد لنشاهد مسلسل وضحا وابن عجلان.
أما مقتنيات البيوت فكانت متواضعة لا يوجد في اغلبها من أدوات الكهرباء سوى الراديو، وكانت “الجرة” أداة تبريد الماء الوحيدة ، واذكر جيداً كيف كانت النساء ترد الى “بير مليح” لاحضار الماء محمولاً على حمار ترشح “الراوية” من على جنباته، وتبلله عن اليمين وعن الشمال، وتطور الوضع واخذ سكان القرية يحفرون الآبار فتملأ عن طريق صهاريج مياه قديمة تجر بواسطة مياكين الحراثة، ويتم “نشل” الماء “بالدلو” يومياً ليستخدم في احتياجات البيوت، اذكر أن الدلو كان يخرج الماء ممزوجاً “بالعلق” الذي يطفو على سطحه، وهي كائنات دودية سريعة الحركة، وكان والدي رحمه الله يضع شماغه على فوهة الدلو ويشرب الماء، واشرب معه رغم وجود “العلق” الذي يتم تصفيته بواسطة مسامات الشماغ الأحمر.
وكان أثاث البيوت بسيطاً ، فلم تكن “الكنابايات” قد ظهرت بعد، والغرفتان تنقسمان تلقائياً الى واحدة تستخدم منامة للعائلة جميعها، والأخرى يتم فرشها “بفرشات ومخدات صوفية” للضيوف، وتفتقد البيوت للمطابخ ، وان وجدت فلا يتعدى أثاثها “النملية” فتخبئ بها الأطعمة حتى لا يصل اليها النمل، وابرز أثاث تلك الأيام كان “بابور الكاز” الذي لم يزل في خاطري صوت هديره، وخاصة في ليالي الشتاء الممطرة، وكان يقوم عليه أهم احتياجات العائلة فبواسطة ناره الزرقاء يتم الطبخ، وعمل الشاي الذي لا ينقطع ليلاً أو نهاراً، وكان يتم معالجة استمرار انطفاء البابور بواسطة “نكشه” بابرة صغيرة تكون ملحقة به، وتعمل على تنظيف رأسه من الانسداد ليعاود اشتعاله مرة أخرى، وكان هنالك صحن كبير يستخدم للحمام المنزلي ، ولم يكن احد يملك غرف خشبية للنوم، أو للضيوف، ولا يتوفر من أدوات التنظيف سوى “السيرف” والصابونة النابلسية.
أما الصباحات البيضاء فكانت تعلن بدايتها مع أضواء الشمس الأولى أصوات متداخلة للقطعان وهي تغادر “الاحواش” والزرائب باتجاه الجبال المحيطة لتحصل على الرعي، وتخلف وراءها طناجر كبيرة مملوءة بالحليب، وقد تسللت الأمهات في ساعات الفجر الأولى، وحلبن المواشي، وخبزنا الشراك، وعندما توقظنا أشعة الشمس يكون الحليب قد تم غليه مع الزعتر لنحصل على أكواب، وكاسات بيضاء ترد الروح في الميت. ثم تشرع الأمهات بتفريغ الحليب في “طاسات” خصصت لهذه الغاية، ويترك حتى يتحول الى “رايب”
ويتم تفريغ لبن الليلة الماضية في جلود يسمى احدها “السعن”، وتبدأ عملية خض لهذا السائل تستمر لساعات حتى ينفصل اللبن عن الزبدة، ثم توزع مشتقات هذه العملية على الأواني المخصصة لها، وترى حول البيوت تجمعات لكرات بيضاء دائرية تعد بالمئات يتم وضعها على أواني حديدية واسعة تسمى “الجميد”، وهو ما سيتم بيعه بعد ذلك مع الزبدة والسمن المستخلص من “القشدة”، في مربعة الحمايدة بسوق مادبا ، فينقل بالشوالات ويباع كل أسبوع أو أسبوعين مرة.
لم يكن هنالك ماء، ولا كهرباء، ولا تليفونات خلوية، وكانت المدارس بائسة، وكنا فيها عرضة للضرب، والشتائم، ولم نكن نستطيع أن نشكو للأهل كي لا يقوم الوالد بدوره باكمال المهمة وتعريضنا الى مزيد من الضرب والشتائم انتصاراً للمعلم.
ولم نكن نأخذ مصروفاً البتة، وانما ننتظر “الفرصة” بفارغ الصبر كي توزع علينا الادارة قطعة من الخبز والجبن، وكأسا من الحليب الذي يتم احضاره الى المدرسة بأكياس كبيرة تشبه “شوالات الاسمنت”. أما ملابسنا فكانت تتحقق في العام مرة للبعض المدلل، وللكثيرين مرة كل عدة أعوام. كنا نتمشى على ايقاع أضواء النجوم ونحدثها عن أحلامنا ، وكانت العتمة تشيع الهدوء في كل أنحاء القرية الوادعة، أما بيوتنا فكانت بلا “قصارة” على الأغلب، والأبواب والشبابيك من زجاج رخيص
ولم تكن هنالك مراوح في الصيف، وفي الشتاء كانت صوبة “البواري” القاسم المشترك بين معظم بيوت القرية، والبعض الفقير راح يستخدم “بابور الكاز” في التدفئة أيضا. وكانت القرية تفتقد الى المواصلات فلا يقوم بهذه المهمة سوى باص واحد على الخط، من ابرز مميزاته أن بابه يغلق بواسطة “حبل” وكان يتم تحميله بشوالات الطحين، وفي أحيان أخرى يتم وضع رأس أو رأسين من الغنم في مؤخرة الحافلة، ناهيك عن الدجاج والحمام وسلال البيض.
ولا اذكر أن بيتاً كان يخلو من “خم” وترى الدجاج البلدي من مختلف الأنواع تزيد أعداده عن سكان القرية بعشرات المرات، ولا يكف عن الصياح، وأصواته تملأ الحارات والأزقة، و في موسم التفقيص يمكن مشاهدة الصيصان بالمئات بين كل عدة بيوت، وعندما تختلط عدة دجاجات بصيصانها مع بعضها البعض يصبح فك الاشتباك عسيراً بدون أن يضيع صوص هنا أو هناك، ومن المشاهد التي كانت مألوفة عندما يحلق طائر جارح في السماء يسمى “الحدية” فوق القرية، وتأخذ أسراب الدجاج بالهروب الى اخمامها لأن هذا الطائر سرعان ما أن ينقض ويسرق صوصاً من أمه، وذلك أمام مرأى الجميع، وعبثاً تروح محاولات البعض التصدي له بالحجارة لاخافته اذ غالباً ما كان يهبط الى الأرض ويرتفع الى السماء وهو يحمل بمنقاره أو بين مخالب قدميه صوصاً مستسلماً فقدته دجاجة وراحت تصيح من خلفه.
وكان “الحصيني” أيضا يهاجم اخمام القرية ليلاً و”ينتف ريش” الدجاج ويتركه على أبوابها كدليل صارخ على خرقة حرمة الاخمام، ويستولي على دجاجة أو اثنتين، ويذهب هدراً في ظلمة الليالي الضجيج الذي يحدثه الدجاج طلباً للنجدة، ويختفي في بحر من الصمت الذي يلف القرية بطور من الوداعة والسكون.
أما الأعراس فكان النقود المعتد فيها لا يزيد عن “رطل” من السكر يحمله المعزوم بيديه، ويتم تفريغه في شوالات معدة لهذا الغرض تنتصب الى جانب واسط بيت الشعر الذي تجري فيه المناسبة، وهناك تشتعل دبكة يدخل فيها الحضور على التوالي. أما العروس فيتم احضارها بسيارة واحدة تزين بأغصان بعض الأشجار الحرجية، وبقية المشاركين في “الفاردة” يسيرون مشياً على الأقدام، وعندما يظلم المساء يحمل احدهم في مقدمة “الفاردة” لوكساً يدوياً ليدلها على الطريق حتى تصل الى بيت العروس، وتتعرض الفاردة أثناء سيرها الى عزومات بروتوكولية تقابل بالرفض كون هذه الدعوات عادة غير جادة، وانما تعبر عن حركة استعراضية حتى يكتمل مشهد العرس القروي.
قد كنا فقراء معدمين كحال غيرنا من الأردنيين في القرى والمحافظات الوادعة، ولم نكن نملك من حطام الدنيا سوى النزر القليل، غير أن ضحكاتنا وسعادتنا ظلت تملأ الأردن من شماله الى جنوبه، وكان طعمه أشهى من العسل، وكان الأعلى والأغلى فماذا جرى حتى عم الضنك والضيق والهم والحزن والحاجة، ووجدنا أنفسنا في الشوارع نصرخ من ألمنا الوطني، وصرنا نفر من اغتراب الى اغتراب.