التحسس الفوري أو ما يعرف تداولا ب«الحساسية» ما هو في حقيقة الأمر سوى رد فعل مناعي مبالغ فيه تجاه مسببات الحساسية. فبينما يعاني بعض الناس ممن يتعرضون لهذه المسببات للحساسية فان البعض الاخر بتعرض اليها دون أي تفاعل مناعي يذكر. و الجدير بالذكر أن احدث الاحصاءات العالمية تشير الى أن عدد حالات الاصابة بالحساسية قد ازدادت بشكل كبير و ملحوظ في السنوات العشرين الأخيرة، اذ باتت الحساسية تصيب ما يقارب واحدا من كل ثلاثة أشخاص على هذه البسيطة. و مما لا شك فيه أن عوامل كثيرة، مثل تغير أساليب الحياة و اختلاف طبيعة المأكل و المعيش و التلوث البيئي، لعبت كلها أدوارا كبيرة في تلك الزيادة المقلقة في عدد الحالات المسجلة للحساسية. فما هي، اذن، الية حدوث الحساسية و كيف السبيل الى علاجها؟
باستثناء أثر بعض الأدوية و بعض المواد الكيميائية، فان أغلبية مسببات الحساسية هي بروتينات من أصول بيولوجية نجدها حولنا في البيئة المحيطة بنا، مثل حبوب اللقاح أو شعر الحيوانات أو العث أو الفطريات أو الأطعمة النباتية أو الحيوانية. و لدى تعرض الانسان ذو الاستعداد الوراثي و المناعي لهذه المكونات تتفاعل خلايا المناعة الفطرية مع هذه المواد و تقدمها للخلايا التائية(T-cells) التي بدورها تفرز بروتينات صغيرة تدعى السيتوكاينات و التي بدورها أيضا تحفز الخلايا البائية(B-cells) على افراز أجسام مضادة من نوع IgE في الدم تكون قادرة على التعرف على مسبب الحساسية. و سرعان ما تلبث أن تنزرع هذه الأجسام المضادة على أسطح الخلايا القعدة (Basophils)و الصارية (Mast cells) . و بهذا تنتهي المرحلة الأولى من عملية التحسس بتوعية الخلايا سابقة الذكر من خلال لقاء أول مع مسبب الحساسية؛ و غالبا ما تحدث هذه المرحلة دون أي أعراض تذكر يلاحظها المريض.
أما المرحلة الثانية من التحسس فتكمن في تعرض المريض لمسبب الحساسية للمرة الثانية على التوالي. في هذه المرحلة، اذ ترتبط الأجسام المضادة IgE الموجودة على أسطح القعدات و الخلايا الصارية بمسبب الحساسية و يؤدي هذا الارتباط الى تفعيل تلك الخلايا و دفعها الى افراز محتوياتها المحفزة للحساسية في أنسجة الجسم. و من تلك المواد المفرزة الهيستامين و الهيبارين. كما تقوم تلك الخلايا أيضا بصنع مواد كيميائية مثل اللوكوتريين و البروستاغلاندين والثرومبوكسان و مستقطبات خلايا المناعة(Chemotactic factors) التي تتسبب في زيادة نفاذية الأوعية الدموية و ما يتلوها من احتقان أو انتفاخ أو حكة.
ينبغي علينا النظر الى الحساسية بوصفها مرضا يصيب أجهزة مختلفة من الجسم بدلا من النظر اليه كمرض يصيب عضوا بعينه. فتفاعل الحساسية غالبا ما يكون تأثيره على مناطق مختلفة من أجسامنا و تتمظهر على هيئة أشكال تتغير في كثير من الأحيان مع مرور الوقت. و من المشكلات المختلفة التي قد تتطور نظرا لوجود تحسس معين ما يلي:
أولا: الربو التي غالبا ما يتسبب للمريض بضيق متكرر في التنفس و ما يصاحبه من صفير أو ضيق صدر أو سعال خصوصا في أثناء الليل أو عند ممارسة التمارين الرياضية.
ثانيا: التهاب مخاطية الأنف، و هو من أكثر المشاكل التنفسية شيوعا، ان كثيرا من حالات التهاب مخاطية الأنف سببها تحسسات ناجمة عن الجسم المضاد IgE. و يعاني المريض في هذه الحالة من حكة في الأنف و انسياب سوائل مخاطية منه و انسدادات أنفية و عدم القدرة على الشم، اضافة الى العطس المتكرر. كما و قد تمتد الأعراض لتسبب ادماعا و حكة في الأعين. ويعرف كثير من الذين يعانون من حساسية الربيع هذه الأعراض معرفة جيدة و المعاناة التي ترافقها.
ثالثا: تمتد الحساسية في بعض الأحيان لتسبب طفحا جلديا فيه احمرار و حكة يعرف بالشرى (Urticaria). و غالبا ما تسببه أنواع من الأطعمة أو أدوية يتحسس لها المرء. و في بعض الأحيان يرافق الشرى التهاب في طبقة الأدمة التي تقع أسفل البشرة مباشرة مما يؤدي الى انتفاخ الجلد .(Angioedema)و من المسببات الأساسية لهذه الحالة بعض أنواع المأكولات و الأدوية و لدغات الحشرات المتنوعة. و مما يجدر ذكره أن بعض حالات التحسس الجلدي، و خصوصا تلك التي تظهر في مرحلة الطفولة، و تسمى الأكزيما، يمكن أن تنجم عن تناول مأكولات كالبيض أو شرب الحليب البقري. في هذه الحالات يجب تجنب تناول الأغذية المسببة للحساسية. و ينصح بالمتابعة الحثيثة للحالات التي تصيب الأطفال على وجه الخصوص نظرا الى أن الكثير من أولئك المرضى ينتهي بهم المطاف الى حدوث تحسسات تنفسية في سنين لاحقة، الأمر الذي يستدعي التعامل معها و علاجها بشكل تام و نهائي ان أمكن.
رابعا: ان أخطر أنواع الحساسية هي تلك التي تصيب أكثر من جهاز من أجهزة الجسم و في ان واحد معا مثل الجلد و الجهاز التنفسي و الجهاز الدوراني و الهضمي و الدم. مثل هذا النوع من الحساسية المفرطة (Anaphylaxis) قد يهدد حياة المريض في حال لم يتلق جرعة من الأدرينالين في الوقت المناسب. هذه الحالة التي يجب التنبه اليها جيدا قد يسببها التحسس المفرط من بعض الأغذية كالفستق و الصدفيات البحرية أو بعض الأدوية كالمضادات الحيوية أو لدغات الحشرات أو بوليمرات كيميائية كاللاتكس الموجود مثلا في تركيبة بعض أنواع القفازات الطبية.
و بناء على ما سلف، يقوم الطبيب المختص بتشخيص أعراض الحساسية و اسبابها اعتمادا على موقع حدوثها ثم يشرع بصرف الأدوية اللازمة.
كما أن للمختبرالطبي دورا أساسيا ومساندا في عملية التشخيص؛ اذ ان قياس مستوى الجسم المضاد IgE في الدم يقدم في بعض الأحيان مؤشرا واضحا على وجود حساسية فورية. كما أن توفر الفحوصات المناعية المتخصصة المعروفة بفحص الراست (RAST test) أصبحت تمكن المريض من التحقق من وجود الأجسام المضادة IgEالخاصة بعدد كبير من مسببات الحساسية سواء أتت عن طريق الاستنشاق أو الأكل، و بذلك يساعد هذا النوع من الفحوصات على تحديد سبب التحسس في كثير من الحالات.
ختاما نقول ان تحديد سبب الحساسية يساعد على تجنب المصدر اذا أمكن ذلك و بالتالي يسارع في اختفاء الأعراض أو على الأقل انخفاض حدتها. وفي طريقة علاج فريدة من نوعها ، تمكننا معرفة أسباب الحساسية من علاج بعض المرضى من التحسس عبر علاج مناعي طويل الأمد (Immunotherapy) يقضي بحقن المريض بكميات تصاعدية من المادة المسببة للحساسية في محاولة لتعويد جهاز المناعة عليها و دفعه الى الكف عن تكوين الأجسام المضادة من نوعIgE ، و بالتالي فان هذا العلاج يسهم في الحد من أعراض الحساسية الفورية الى حد كبير.