يفترض بالمشاهد الكيدية التي تلتقطها كاميرات بعض الفضوليين عما يجري في بعض أروقة مقرات المرشحين الأردنيين للانتخابات ألا تثير مجدداً مؤشرات العدمية والسلبية، ليس لأنها مقبولة اجتماعياً أو يمكن أن تنتهي بتأثير سياسي على الخارطة الانتخابية، ولكن لأنها جزء من عادات الأردنيين وتقاليدهم في نهاية المطاف.
في مدينة مأدبا شرقي العاصمة عمان، استدعى مشهد المرشح الذي ذبح على الأرصفة قرب منزله 38 جملاً لإطعام ضيوفه يوم افتتاح مقره الانتخابي، كل الذكريات الحزينة عن الانتخابات وما تعنيه وما قد يحصل فيها.
ويستدعي مشهد مصور يظهر تدافع الأطفال على أطباق الحلويات في خيمة مرشح آخر نفس الإطار السلبي التشكيكي من جهة المسيسين والحزبيين.
لكن حجم ومنسوب الجدل الذي تثيره مسائل الطعام والإطعام أثناء الدعاية الانتخابية أخفق في منع مرشح ثالث من تصوير كمية ضخمة من أطباق «المناسف» يعلن عبرها لجمهوره عن حملته الانتخابية بأسرع وأسهل الطرق الانتخابية التي يألفها المجتمع.
الأهم في الواقع، أن هذه المظاهر بدأت تلفت أنظار السلطة مع أنها مظاهر اعتيادية في المجتمع؛ فالأردني يطهو الطعام ويقدمه بكل حال وبكميات كبيرة في مختلف المناسبات التي تقل أهميتها عن إشهار حالة ترشح للانتخابات.
والمجتمع الأردني يتقبل ويتفهم بطبيعة الحال، مثل هذه السلوكيات التي لوحت الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات بالتصدي لها، لكن في الانتخابات المقبلة.
هل تقديم «المناسف» أقرب إلى «رشوة انتخابية» حقاً؟ هذا هو السؤال المطروح في مجتمع تقاليديه مهتمة جداً بإكرام الزوار والضيوف بعد المداخلة المثيرة لرئيس الهيئة المستقلة للانتخابات موسى المعايطة، الذي لوح بحظر الطعام بموجب تعديلات قانونية لاحقاً.
أغلب التقدير أن مبالغة بعض المرشحين الانتخابيين في إكرام ضيوفهم وتقديم الطعام والحلويات لهم وإن كانت سلوكاً سلبياً أو قابلاً للانتقاد، لا يؤثر على مسار الانتخابات في النتيجة، خلافاً لأن بعض الخبراء الاقتصاديين يعتبرون تقديم الطعام والحلويات للجمهور أثناء الحملة الانتخابية مظهراً في الإنفاق المالي يساعد الدورة الاقتصادية المحلية.
المعنى أن النفقات هنا من جيب المرشح الثري أو من عائلته، والمبالغ التي تدفع يستفيد منها مواطنون وحرفيون وأصحاب مطاعم. وبكل حال، ذلك جزء أساسي من تقاليد الأردنيين الذين يقدمون الطعام بكثافة بمناسبة أو من دونها.
وهو جزء استشعرت مجسات ذكية وعميقة في الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات انعكاساته السلبية على مجمل ليس العملية الانتخابية فقط ولكن مسار التحديث السياسي برمته.. لذلك أعلن المعايطة أن هيئته قد تدفع بتعديلات على الأنظمة واللوائح تمنع تقديم الطعام في المقرات الانتخابية، وتصنف الأمر باعتباره في سياق الرشوة الانتخابية.
ذلك عملياً مفيد في السيطرة، لكن المرشح الذي تمنعه الهيئة لاحقاً من تقديم الطعام في مقره الانتخابي قد يقدمه بالجملة أو بالتقسيط في منزله أو في أي مكان آخر.
وصعوبة إثبات جرم الرشوة هنا مسألة ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار خلافاً لأن المحاججة تبدو منطقية، لأن الشرائح الاجتماعية الأردنية تفترض أن إكرام الضيوف والزوار مسألة طبيعية مادامت الإمكانات المالية متاحة، فيما لا أحد يلوم المرشح المسيس الفقير الذي يخاطب بموقفه السياسي ناخبين مسيسين أصلاً.
الطعام والحلويات في المقرات الانتخابية تقدم للمارة والعابرين، وعدد من يزورون المقرات ويحظون بهذا الكرم ليس بالضرورة أن يطابق عدد الأصوات التي يحصل عليها المرشح الذي أنفق المال، خلافاً لأن من يقدم نفسه عبر الطعام ليس لديه في الواقع أي شيء يقوله للناخبين.
جدل «المناسف»
لذا، فإن جدل «المناسف» ومآدب الطعام يمكن الاستغناء عنه مرحلياً، فهو لا يشكل مساحة أساسية في عملية انتخابية مهمة جداً، الكتلة الأهم من المرشحين فيها تمثل الأحزاب السياسية التي لا تملك في أغلبها أصلاً مالاً يكفي لتقديم الطعام للجماهير. التركيز على ما هو أعمق وأبعد في رسائل الانتخابات قد يكون مفيداً أكثر.
والحرص على استغلال مشاهد محدودة أو فردية قدم فيها الطعام أو ذبحت فيها الجمال، هو سلوك ينبغي تأمله وحسابه على الأفراد والمجتمع وليس على العملية الانتخابية.
«المناسف» والحلويات ستقدم لاحقاً أيضاً في مقرات الناجحين في الانتخابات، وطبعاً هنا بصرف النظر عن خلفيتهم السياسية والحزبية حيث لا نصوص قانونية تمنع ذلك.
مهم جداً في السياق الانتباه إلى أن الهيئة المستقلة للانتخابات في النسخة الجديدة الحالية منها، بدأت تفرض بصماتها بعمق وفي التفاصيل وتقول رأيها لا بل موقفها الإجرائي في متابعة الكثير من المظاهر.
والأهم قد يكون الالتزام الفعلي بما ذكره رئيس الهيئة موسى المعايطة، عندما اعتبر أن المعيار اليتيم في قيام الهيئة بواجبها هو مسطرة الالتزام الحرفي الدقيق بكل الأنظمة والقوانين التي تحدد صلاحيات الهيئة ومفوضيها وموظفيها.
وعليه، يمكن القول في النتيجة إن تسليط الأضواء على قصص المرشحين والناخبين مع «المناسف» والحلويات والطعام والشراب تبقى جزئية محدودة، فيما الأهم بوضوح الانتباه وتسليط الضوء على ما هو جوهري وأعمق في رسائل وإيحاءات برلمان 2024 بانتظار ليس النتائج فحسب، بل ما ستقوله لاحقاً في العمل المؤسسي المنهجي والبرامجي في اتجاه التنمية السياسية ومسار تحديث المنظومة برمتها، وفقاً لما يقترحه رئيس مجلس النواب سابقاً، وعلى الأرجح لاحقاً، أحمد الصفدي.
بسام البدارين - القدس العربي