أصدر منتدى الاستراتيجيات الأردني تحليله السنوي لمشروع القانون، بهدف وضع الموازنة في سياقها الاقتصادي، واستعراض أبرز الملاحظات على بنود مشروع القانون للعام 2024، وطرح بعض التوصيات المتعلقة بالسياسة المالية.
ويأتي إصدار التحليل بعد موافقة مجلس الوزراء على مشروع قانون الموازنة العامة للسنة المالية 2024.
واستند المنتدى في تحليله للموازنة على المنطق الاقتصادي الأساسي للنمو والتنمية. حيث بيّن بأن الحكومات تؤثر على الناتج المحلي الإجمالي (والتوظيف) من خلال التحكم المباشر في حجم الإنفاق ومكوناته. كما تؤثر الحكومات بشكل غير مباشر على الاستهلاك، والاستثمار، والميزان التجاري، من خلال سياستها المالية/ الموازنة العامة والتي توضح حجم الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، وحجم الإنفاق العام ومكوناته، بالإضافة إلى عدة أدوات أخرى كالقوانين والتشريعات، والسياسات العامة.
وأوضح المنتدى أن الموازنة العامة تعتبر أداة التخطيط، التي تعكس أولويات الإنفاق الحكومي، مما يؤكد ضرورة وجود إطار حوكمة سليم يجعلها استراتيجية، وفعالة، وواضحة، وشفافة.
وفي هذا السياق أشار المنتدى إلى ثلاث خصائص يجب أن تتميز بها الموازنة أو السياسة المالية الجيدة، وهي: قدرتها على تحفيز النشاط الاقتصادي الذي يعزز من النمو الاقتصادي الحقيقي ويحد من الفقر وعدم المساواة في الدخل والفرص. بالإضافة إلى قدرتها على تعزيز استقرار الاقتصاد الكلي من خلال الحفاظ على معدلات نمو إيجابية ومستقرة ومستدامة في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، ومعدلات تضخم متدنية ومستقرة، ومسارات مستدامة لمستويات العجز المالي والدين؛ كي لا يصبح الدين العام مصدراً رئيسياً لعدم الاستقرار الاقتصادي. أما الميزة الثالثة فهي قدرتها على تحسين كفاءة تخصيص وإنفاق الموارد بشكل كافٍ وفعال لتوفير السلع الأساسية وتقديم الخدمات العامة.
وفيما يتعلق بأبرز الملاحظات على مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2024، فقد أشار المنتدى إلى أن إجمالي الإنفاق العام في الموازنة قد شهد ارتفاعا بزيادات سنوية وصلت إلى 8.3% في عام 2023. أما في عامي 2024، و2025، فمن المتوقع أن تكون نسب هذه الزيادات 9.1%، و3.4% على التوالي. إلا أنه أشار بأن مسار إجمالي الإنفاق العام عبر الزمن "بانخفاض مستمر" كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بسبب انخفاض الإنفاق الرأسمالي وليس الجاري.
وبيّن المنتدى أنه وبالرغم من أن إجمالي الإنفاق الرأسمالي قد سجل مستوىً تاريخيا غير مسبوق (من حيث القيمة) إلا أن نسبته من الناتج المحلي الإجمالي تعد من الأقل خلال العقود الأربعة الماضية، وبأن أرقام موازنة عام 2024، والأرقام التأشيرية لعام 2025 ما زالت حول مستوياتها المعتادة.
وحول الإنفاق الرأسمالي في مشروع قانون الموازنة العامة 2024، أشار المنتدى إلى أن هذه الموازنة تعتبر شبيهة لسابقاتها؛ فمبلغ الإنفاق الرأسمالي في موازنة 2024 يساوي (1.73 مليار دينار)، وهو موزّع على 75 وزارة ومؤسسة عامة. كما أن إجمالي حجم المشاريع الاستثمارية الرأسمالية "الجديدة" في السنة المالية 2024 يساوي 73.3 مليون دينار فقط. وما تبقى فهو مدرج في موازنات السنوات السابقة (أي أنها قيد التنفيذ ومستمرة). علاوة على ذلك، فإن عدد المشاريع الاستثمارية الرأسمالية "الجديدة” في العام المالي 2024، سيبلغ 131 مشروعا. وهذا يعني أن متوسط حجم الاستثمار الرأسمالي يساوي 559,671.8 (حوالي نصف مليون دينار) لكل مشروع. في حين أن متوسط حجم المشاريع قيد التنفيذ والمستمرة يساوي 2.1 مليون دينار أردني، و1.7 مليون دينار أردني لكل مشروع على التوالي. علاوة على أن النفقات الرأسمالية للمحافظات حسب السقوف المحددة للسنة المالية 2024، تعتبر ضئيلة.
أما بخصوص "الإنفاق الجاري"، فقد أوضح المنتدى بأنه يتركز عبر السنوات على خمس مكونات رئيسية تمثل النسبة الأعلى من مجموع الإنفاق العام الكلي وهي كل من النفقات العسكرية، وتعويضات العاملين، ومدفوعات الفوائد (خدمة الدين)، والتقاعد والتعويضات، والمساعدات الاجتماعية. مشيراً إلى أنه وبالنظر إلى مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2024، والأرقام التأشيرية لعام 2025، لا يتوقع أن يتغير نمط هذا الإنفاق.
وبين المنتدى أن الإيرادات المحلية (مع المنح أو باستثنائها) عبر الزمن كانت أقل من الإنفاق العام. وقد بقي هذا النمط على حاله في موازنة 2024. علاوة على أن الأرقام التأشيرية لموازنة عام 2025 هي في ذات الاتجاه وإلى حد كبير.
وفيما يتعلق بالعجز المستمر في الموازنة العامة، واستنادا إلى القيم المقدرة من صندوق النقد الدولي للناتج المحلي الإجمالي خلال الأعوام (2023 – 2025)، فمن المتوقع أن تظل نسبة العجز في الموازنة (مع المنح) حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي هذا السياق، أشار المنتدى إلى أن العجز الفعلي سيكون أعلى فيما لو أخذ بعين الاعتبار التغير في رصيد السلف والذي بلغ 674 مليون دينار وفق الحساب الختامي لعام 2022.
وبين المنتدى أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفعت من 62.4% في عام 2010، إلى أكثر من 105% في عام 2022 (بما في ذلك الدين للضمان الاجتماعي)، كما أن نسبة الدين الخارجي تزداد بتسارع أكثر من الدين الداخلي. وقد بيّن المنتدى أن هناك متأخرات على الحكومة بمئات الملايين لا بد من تسديدها لموردي السلع والخدمات (كالصحة، والإنشاءات، وغيرها) من أجل تحريك النشاط الاقتصادي.
وفي سياق متصل، أوضح المنتدى أن ارتفاع الدين العام (وأسعار الفائدة على الدولار) سيؤدي إلى زيادة خدمة الدين العام (مدفوعات الفوائد). مشيراُ إلى أن مدفوعات الفوائد تفوق ما ينفق على الدفاع العسكري، أو التعليم، أو الصحة، أو حتى النقل (الجاري والرأسمالي). علاوة على أن ارتفاع الدين العام وأسعار الفائدة على الدولار الأميركي قد أدى إلى انخفاض نسبة النفقات العسكرية إلى مدفوعات الفوائد من 93.3% في عام 2022، وإلى 83.1% عام 2023، وإلى 74.4% في موازنة 2024. وفيما يخص الإنفاق على التعليم أو الصحة (الإنفاق الرأسمالي والجاري) نسبة إلى مدفوعات الفائدة فقد أشار المنتدى إلى أنها انخفضت أيضاً. وهذا يشير إلى الضعف العام في واقع المالية العامة وإنفاقها على الخدمات العامة الضرورية في تحفيز النمو الاقتصادي والتنمية بشكلها العام.
وأشار المنتدى إلى أن العجز الكلي المتوقع في العام 2024 للوحدات الحكومية، سيبلغ 809,6 مليون دينار. كما وتشير الأرقام التأشيرية إلى أن هذا العجز سيزداد إلى 811,2 مليون دينار في العام 2025، وإلى 872,4 مليون دينار في العام 2026. وفي هذا السياق، أشار المنتدى إلى أن العجز المقدر في شركة الكهرباء الوطنية في العام 2024 سيبلغ (519.8) مليون دينار، والعجز المقدر في سلطة المياه سيبلغ (331.3) مليون دينار للعام 2024. وبالتالي، فإن مجموع العجز في كل من شركة الكهرباء الوطنية وسلطة المياه هو العامل المهيمن في إجمالي عجز الوحدات الحكومية.
وحول الإيرادات الضريبية للحكومة، أوضح المنتدى أن هناك تزايداً في إجمالي الإيرادات الضريبية في السنوات الأخيرة. واستنادا إلى القيم المقدّرة من صندوق النقد الدولي للناتج المحلي الإجمالي للأعوام (2023 – 2025)، فإن نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي الإجمالي سترتفع من 17.5% في عام 2022، إلى 18.5% في عام 2023، وإلى 19.4% في عام 2024. ويعتبر هذا الارتفاع مؤشرا جيدا خاصة في سياق العجز المستمر في الموازنات المتعاقبة. إلا أن هذه النسب مازالت متواضعة عند النظر إلى النسب في بعض البلدان الأخرى، كالدنمارك (46.8%)، والسويد (33.6%)، وفنلندا (31.0%)، والمملكة المتحدة (26.8%)، واليونان (26.2%)، ومتوسط دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (24.9%)، وتونس (22.5%)، وحتى المغرب (21.7%).
وفيما يخص النظام الضريبي في الأردن، فقد بين المنتدى أنه لا يزال غير منصف. فبالرغم من توقعات انخفاض ضريبة المبيعات إلى 65.9% من إجمالي الإيرادات الضريبية في عام 2024، الا أن هذه النسبة ما زالت مرتفعة جدا بالمقارنة مع العديد من الدول الأخرى كالدنمارك (30%)، والسويد (36%)، وفنلندا (45%)، والمملكة المتحدة (38%)، وتونس (50%)، ومصر (48%) .
أما الضريبة على "الأفراد" وهم الشركات والمهن الخاصة (باستثناء الشركات الكبرى) مثل؛ الأطباء، والمحامين، وتجار التجزئة، والمطاعم، ومحلات مستحضرات التجميل، والصيدليات، وغيرها، فقد أشار التقرير أنها شكلت بالمتوسط ما نسبته 1.2% فقط من إجمالي الإيرادات الضريبية. وبالمقابل فإن "الأفراد من الموظفين" يساهمون بنسبة ضريبة (4.3%) وهي أعلى من نسبة الشركات والمهن الخاصة في اجمالي الإيرادات الضريبية.
ونوّه المنتدى إلى أن العديد من البلدان المتقدمة والنامية عادة ما تَمنح "امتيازات ضريبية". وتسمى تكلفة هذه الامتيازات "النفقات الضريبية" أو أحيانا تسمى بـ "الإيرادات الضائعة"، مبيناً أنه ووفق مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2024، فإن النفقات الضريبية قد انخفضت في السنوات الأخيرة حيث وصلت إلى 7.60% في عام 2021، و7.56% في عام 2022 من الناتج المحلي الإجمالي.
وأكد المنتدى في هذا السياق أنه ورغم هذا الانخفاض المشجع للأردن، إلا أن هذه النسب lازالت مرتفعة مقارنة بدول أخرى. فقد بلغت هذه النسبة حوالي 0.88% في ألمانيا (2022)، و2.94% في تشيلي (2021)، و2.49% في المغرب (2021)، و4.32% في إيطاليا (2022)، و4.07% في تركيا (2020).
وبين المنتدى أنه وبالرغم من بعض المؤشرات الإيجابية في مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2024، إلا أنها لم تتضمن تغيّراً جوهرياً. حيث حافظ مشروع القانون، في أرقامه المنشورة، وأرقامه التأشيرية لعام 2025 على الاستمرار في العمل على زيادة الإنفاق العام والإيرادات العامة بضع نقاط مئوية. وكأن المعيار هو التشبث بالموازنة التزايدية(Incremental Budgeting) ، بالإضافة إلى تركّز الإنفاق الجاري على عدد محدود من بنود الموازنة العامة، وتشتت النفقات الرأسمالية على العديد من المشاريع، علاوة على استمرار العجز في الموازنة سواء بشمول المنح أو استثنائها، وتزايد نسبة خدمة الدين العام من النفقات العامة.
كما أشار المنتدى إلى أنه وفي ضوء هيمنة ضريبة المبيعات على إجمالي الإيرادات الضريبية، واستمرار الارتفاع في النفقات الضريبية، بالإضافة إلى الاستمرار في انخفاض مبالغ النفقات الرأسمالية للمحافظات، والعجز المستمر في موازنات "شركة الكهرباء الوطنية" و"سلطة المياه، يبرز التساؤل حول مدى قدرة الموازنة العامة على تحقيق أهداف رؤية التحديث الاقتصادي، فيما يتعلق بتحقيق النمو الاقتصادي المنشود، والحد من الفقر وعدم المساواة، علاوة على المحافظة على استقرار الاقتصاد الكلي، وكفاءة تخصيص الموارد، من خلال الإنفاق الكافي والفعال على توفير السلع الأساسية والخدمات العامة.
وفي سياق رؤية التحديث الاقتصادي، ومن أجل خلق مليون فرصة عمل جديدة، وتحقيق الزيادة في دخل الفرد الحقيقي بنسبة 3%، واستقطاب استثمارات تقدر بحوالي 41 مليار دينار (72% منها من القطاع الخاص)، استعرض منتدى الاستراتيجيات الأردني بعض التوصيات المتمثلة بضرورة تبني نظام ضريبي معاصر قائم على "العدالة"، "والتصاعدية الكافية"، "وتنوع المصادر". مبيناً أن النظام الضريبي يجب أن يزود الحكومة بموارد مالية "كافية" و"متنوعة".
كما شدد المنتدى على ضرورة العمل على زيادة نسبة الايرادات الضريبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، وتخفيض نسبة ضريبة المبيعات المرتفعة نسبياً إلى إجمالي الإيرادات الضريبية. بالإضافة إلى تحسين "تحصيل الضرائب" من فئة "الأفراد" الأعمال، لتوسيع القاعدة الضريبية، وتحصيل المزيد من الإيرادات، مع ضرورة الاستمرار في العمل على رفع كفاءة إدارة النفقات الضريبية، وتخفيضها أينما أمكن.
وشدد المنتدى في ورقته على أهمية رسم خارطة طريق لتطوير السياسة المالية العامة التي تتبنى الخصائص الحقيقية للموازنات الجيدة، والتي تستند إلى التخطيط طويل الأمد لآثار السياسة المالية التي ينعكس أثرها على تعزيز النمو وتحقيق التنمية على المدى الطويل.