لعل الموقع الذي ستتناوله هذه السطور يعد أقدم الأسواق الشعبية "الهامشية" في العاصمة عمان، فإذا كان "شارع طلال" الشهير في وسط العاصمة، يعد السوق الرسمي الأول في سنوات نشأة المدينة، وهو يقع على يسار سيل عمان بالنسبة للقادم من الغرب، فإن الجهة اليمنى من السيل شهدت أول نشاط تجاري "هامشي" ملحوظ، وهو ما سنتناول جانبا منه في هذا المقال الذي يركز على ساحة شهيرة ظلت فارغة طوال عقود.
على أن مسألة تبدل العمران في وسط عمان وخاصة مع البدء بسقف السيل في عقد الستينيات من القرن الماضي، غيرت الكثير من الملامح، لكن هذه الساحة التي تبلغ مساحتها حوالي خمسة دونمات، ظلت شاهدا على حضور وأهمية النشاط التجاري الهامشي.
ونظرا لانخفاض مستواها عن مستوى أعلى سقف السيل بحوالي مترين، فقد أطلق عليها اسم "الجورة"، وقد ظلت إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي موقعا رئيسيا لتجارة الملابس المستعملة "البالة" وتخصصت بالصنف الأدنى من هذه البضاعة، أي أنها كانت سوقا لفقراء زبائن الملابس المستعملة.
في مطلع الثمانينيات، استُملكت الساحة من قبل أمانة العاصمة (كما كان اسمها آنذاك)، للمنفعة العامة، ثم بوشر ببعض الإجراءات العمرانية، ثم توقف العمل، ولكن أثناء ذلك تم اجبار باعة البالة المتواجدين في الساحة، على الانتقال شرقا إلى ساحة خالية أخرى تقع تماما على جسر المحطة، حيث أقيم "سوق بالة المحطة" هناك وما يزال في موقعه إلى الآن.
خلال هذا الزمن، أي خلال أكثر من 35 عاما، ابتداء من مطلع ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، شهدت "الجورة" طيفا واسعا من النشاط التجاري والخدمي، وبعد أن حُولت ملكيتها إلى وزارة الأوقاف، باتفاق مع الأمانة، تحول اسمها الشعبي إلى "جورة الأوقاف".
لسنوات عديدة، استخدمت الجورة كموقف للسيارات بالأجرة، ثم ضُمنت في أواخر تسعينيات القرن الماضي، كسوق شعبي يستخدمه باعة البسطات مقابل رسم مالي صغير، ثم شهدت نشاطا مشتركا (للبيع وكموقف للسيارات)، ثم أصبحت أحد أكبر مواقع ممارسة أنشطة إعادة التدوير وخاصة في مجال الأثاث المستعمل، ونشأ على أطرافها وفي امتدادات الشوارع المحيطة بها العديد من محلات الأثاث المستعمل أو الأثاث الجديد من أصناف منخفضة السعر نسبيا.
وبموازاة هذه الأنشطة الاقتصادية الشعبية، وبسببها، وعلى هوامشها، ولخدمتها أيضا، أقيمت انشطة أخرى متنوعة وخاصة في مجال النقل من وإلى الجورة ومحيطها، وانتشر عشرات الشباب من العاملين في التحميل "العتالة" بالأجرة.
خلال عقود ظلت الجهة مالكة الجورة، وهي وزارة الأوقاف، تتحدث بين سنة وأخرى عن مشروع استثماري كبير تنوي إقامته في الموقع، ولم تتحول الأحاديث إلى وقائع وإجراءات سوى في الشهر الأخير.
فمنذ أسابيع، جرى تسوير الساحة بسور حماية على شكل صفائح معدنية كبيرة تحجب الساحة عن نظر المارة، وهي إشارة جدية لبدء العمل هذه المرة، ولهذا سارع أحدهم إلى كتابة عبارة كبيرة فوق تلك الصفائح تقول: "يوم الحفر العظيم الأربعاء 14 شباط (فبراير) عيد حب سعيد". إن هذا الحفر بالفعل بالنسبة للذين أمضوا أعمارهم في المكان، يعتبر حدثا عظيما.
اليد غير الخفية
تقع "الجورة" وسط محيط من النشاط الاقتصادي الشعبي الكثيف، ففي صدرها أقيمت منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي أكثر من عشرة محلات لبيع الأثاث، ومقابلها على الشارع العام، وبجوارها من الجهتين، يوجد سوق مماثل، وقربها على بعد عشرات الأمتار، يوجد السوق الذي يعرف بـ"سوق الحرامية"، وهو بالمناسبة، اسم على "غير مسمى"، وربما تمارس في هذا السوق أقصى درجات الأمان بمستوى لا تعرفه كثيرا من الأسواق الأخرى الكبيرة، ففيه، يمكن للبائع أن يغادر محله ويتركه مفتوحا بمجرد أن يبلغ جاره، أو بوضع عصا أو قطعة قماش صغيرة على الباب... وقد نعود لهذا السوق في معالجة قادمة.
وحول الجورة أيضاً، تصطف عشرات سيارات "البكب" التي تقدم خدمة النقل، وبقربها تقام أكبر وأقدم سوق للأدوات والعدد والأجهزة المعاد تدويرها، وخاصة أجهزة الهاتف النقال واكسسواراتها.
وخلف الجورة يقع سوق الطلياني وهو واحد من أشهر أسواق الملابس والأحذية المستعملة من صنف أجود قليلا، وقريبا منه وعلى امتداده إلى الشرق يوجد "سوق الطيور" الشعبي...
وهكذا فأنت في هذا المكان في خضم أكبر موقع تجاري لفقراء العاصمة ومحيطها، من مشترين وباعة أيضا ومتجولين بقصد التعرف وفق قاعدة معروفة في هذه المواقع تقول "خذ فكرة واشتري بكره"! لكل جزء في هذا السوق دوره الذي يتكامل مع باقي الأدوار، وإذا كان الاقتصاديون ومفكروهم مولعون بمصطلح "اليد الخفية" التي تتحكم بالسوق، فإن هذا السوق تنسقه وتديره أيد "غير خفية" ولكنها تقوم بذلك تلقائيا وبالإحساس الذكي، ووفق ما تقتضيه متطلبات تحصيل الرزق.
ما الذي يعنيه اختفاء الجورة؟
لا أحد يجادل في حق مالك ساحة الجورة في استثمارها، لكن العاملين في المكان متخوفون من أن الخطوة لن تكتمل هذه المرة، ويستدلون على ذلك ببطء العمل، إذ انه، وبرغم اللوحة الكبيرة المعلقة كعنوان للمشورع والتي تتحدث عن فترة 270 يوما لإنجاز المشروع تبدأ من شكر كانون الثاني (يناير) 2018، أي من الشهر الأول من هذا العام، فإن مرور أسابيع على بدء العمل لا توحي بجدية العمل، فالحفر يجري بعدد قليل من العاملين والمعدات. ويخشى العاملون من أن أمر بعثرة الحالة في المنطقة سوف يستمر طويلا قبل أن تتضح الصورة.
إن العاملين في الجورة وحولها، بالطبع لا يملكون حق الاعتراض، ولكنهم الآن يتمنون إنجاز المشروع واكتمال المشهد. إن العاملين هنا ليس لديهم أية سلطة قانونية على القرار المتعلق بحياتهم، وهم محكومون بالانتظار، ولديهم القدرة والخبرة الطويلة في ميدان مرونة التصرف وفقا للمتغيرات العمرانية والإدارية التي تحيط بظروف عملهم.
قد يجادل المالك وهو هنا جهة حكومية (وزارة الأوقاف) حول الجدوى الاقتصادية لمشروعه مقابل أية خيارات أخرى استخدمت فيها الجورة، ولكن من حق المجتمع أن يسأل عن الجدوى التنموية، وهي جدوى تختلف عن الجدوى الاقتصادية، من حيث أنها تتطلب النظر إلى العاملين في السوق الهامشي، باعتبارهم مواطنين أصحاب حق في الحياة.