أكد الباحث الشرعي الشيخ الدكتور أحمد الغامدي في رده على ما تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي والجدل الذي أثير حول تعليق الفنانة أحلام على وفاة الممثلة الهندية سريديفي كابور، وأنهلا يجوز الترحم عليها لكونها تنتمي إلى غير دين الإسلام.
وقال إن التراشق بالاتهامات، بالتساهل أو التشدد، بسبب قضية الترحم على أموات غير المسلمين، فيه الكثير من التجاوز، ومن الغريب أن الناس تشغلهم هذه المسألة، وتتصاعد وتيرة الاختلاف بينهم وتصل إلى اتهام من يترحم على مثل هؤلاء بالقدح في إيمانه، وقد أخذت القضية أكبر من حجمها، والذي أرجحه في هذه المسألة أن البر بالأحياء من غير المسلمين المسالمين أمر جائز بنص القرآن، والبر بأمواتهم هو كذلك، لقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم)، والقول بالتفريق بين الأحياء والأموات تحكم بلا حجة، فيحتاج القول به إلى دليل، ولا شك أن مفهوم البر يشمل الدعاء لهم والإحسان إليهم، خاصة إذا كانوا أقرباء أو زوجات أو أصدقاء.
كما أن المنهي عنه هو#الاستغفار_لغير_المسلمينوليس الترحم كما وردت بذلك النصوص وليس عموم الترحم عليهم كالاستغفار قال الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين)، ومثله نهي النبي عن الاستغفار لأمه، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم، ومنطوق الآية والحديث النهي عن الاستغفار وليس النهي عن الترحم.
وبين#الغامديأن هناك فرقاً بين الاستغفار والترحم عليه، فالاستغفار يستلزم طلب غفران عام، وفيه ما لم يأذن الله بغفرانه، كالشرك، ومقتضاه طلب الجنة للمستغفر له، وليس الترحم كذلك، فيمكن أن يرحم الله العبد وإن لم يدخله الجنة، كأن يخفف عنه العذاب مثلا، فالرحمة أعم من الغفران، وهذا يعني أن الترحم لا يستلزم طلب دخول جنة ولا غفران ما لم يأذن الله بغفرانه.
فتخفيف العذاب على الكفار الذين عرفوا بخير وأعمال حسنة، وتشديد العذاب على من عرف بشر وأعمال سيئة، سائغ عقلا وثابت شرعا، فإذا جاز تخفيف العذاب عليهم بهذه الأعمال جاز الترحم عليهم بأن يرحمهم الله عز وجل بالتخفيف، قال تعالى: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب). وقال فيمن سأل مضاعفة العذاب على من كان سببا لضلالهم: (لكل ضعف ولكن لا تعلمون).
وأضاف أن#النبي_دعا_لعمه_أبي_طالبأن يخفف الله عليه العذاب بسبب ذبّه عن النبي ودفاعه عنه، فصار أخف أهل النار عذابا، كما جاء في الحديث، وبهذا المعنى يجوز للمسلم الدعاء للآباء والأمهات والقرابة من أهل الإحسان ورموز العدالة ومحاربي العنصرية ودعاة الإنصاف ومناهضي الظلم بالترحم لتخفيف العذاب عنهم إذا ماتوا على الكفر، ودعوى التخصيص بأبي طالب تحتاج إلى دليل، وإلا تكون تحكّما بلا برهان، والفرق الوحيد بين أبي طالب وبين غيره من المعذبين في النار أنه أخفهم عذابا، وليس معناه أن غيره لا يخفف عنه العذاب، وتقدم قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب)، فدلت الآية على أن هناك أشد العذاب، ودل حديث أبي طالب على أن هناك أخف العذاب، والناس الآخرون بين هاتين الحالين، درجاتهم متفاوتة فيها حسب أعمالهم.
وفي صحيح مسلم روي أن النبي قال في شأن أهل النار: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته إلى عنقه).
وقد حكى الله دعاء أنبيائه لمن كفر بقوله: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). وقال: (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم).
وذكر أن من قال بأن الإجماع محكي على تحريم الترحم فإن ذلك غير مسلم له، فقد نقل ابن رجب الخلاف في هذه المسألة في كتابه (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) فقال رحمه الله: (وأما الكفار، إذا كان لهم حسنات في الدنيا، من العدل والإحسان إلى الخلق، فهل يخفف عنهم بذلك من العذاب في النار أو لا؟ هذا فيه قولان للسلف وغيرهم. أحدهما: أنه يخفف عنهم بذلك أيضاً، وروى ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، معنى هذا القول، واختاره ابن جرير الطبري وغيره).
وذكر البيهقي في كتابه (البعث والنشور) ما يدل على عدم وجود هذا الإجماع، حيث قال: (وقد يجوز أن يكون الحديث ما ورد من الآيات والأخبار في بطلان خيرات الكافر إذا مات على كفره، ورد في أنه لا يكون لها موقع التخليص من النار وإدخال الجنة، لكن يخفف عنه من عذابه الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها سوى الكفر بما فعل من الخيرات والله أعلم)، فهذا كلام البيهقي وغيره، فأين الإجماع المدعى هنا في هذه المسألة بالخصوص، فضلا عن الكلام في الخلاف في حجية الإجماع والخلاف في ثبوته عموما.
وفي قول الله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله: (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)، وما صح في الحديث من أن المرء قد يعمل بعمل أهل الكفر أو بعمل أهل الإيمان فيما يبدو للناس ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بخلاف ذلك قبل موته فتكون خاتمته بعكس ما ظهر من حاله، وما صح في الحديث أن رجلا لما حضرته الوفاة قال لأبنائه إذا مت فأحرقوني وذروني في اليم قائلا: لأن قدر الله ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين، وفي هذا شك في قدرة الله على إعادته وهو كفر، فأحياه الله فقال له ما حملك على ذلك قال مخافتك يا ربي، قال فغفر الله له وأدخله الجنة.
دلالات واضحة على أنه لا يصح لمسلم أن يتجاسر على أمر الحكم على معين وهو غير متيقن من حاله، وفي ما مضى من النصوص دلالة على أن الحكم على معين بالنار غير صواب، وعدم جواز الاستغفار لابد أن يكون بعد تبين أنه قد بلغته الحجة صحيحة فكفر بها ومات على ذلك الكفر يقينا، وهذا لا يصح إلا بوحي ثابت فيه بعينه أو بعلامة ظاهرة عند موته تدل على موته كافرا بالحجة الصحيحة، وأنها بلغته حتى لا يعد دخولا في أمر مظنون وتجاسرا على ما محله علم الله من حال ذلك الميت، أما الحكم على عموم الكافرين بأنهم في النار فلا إشكال فيه إنما الإشكال في الحكم على معين منهم مجهول علمه بالحجة الصحيحة أو حاله قبل موته فهذا محل الإشكال، وأعدل ما يقال في المعين المجهول حاله السكوت عن الاستغفار له مع جواز الترحم عليه، لما وضحته من فرق بين الأمرين، فالترحم على من مات منهم ممن جهل حاله لا يتنافى مع أحكام الإسلام، أما الاستغفار لمن جهل حاله فأعدل ما يقال فيه السكوت عنه بعينه، لأنه لا تعرف حقيقة بلوغه الحجة صحيحة أم لا؟ وهل كان حين موته كافرا بها أم لا؟ وأمره إلى الله سبحانه وتعالى فقد يكون من الأشخاص الذين يبتلون في الآخرة ويختبرون، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين قال "الله أعلم بما كانوا عاملين".
وأكد قائلا: إن الترحم ليس كالاستغفار المنهي عنه، لأنه إن كان مات كافرا فمحمل الترحم التخفيف من العذاب عنه، لما اشتهر به من عمل حسن أو خير ونفع، وإن كان دون ذلك كأن يكون من أهل الفترة أو من التائبين ممن لا تعلم توبتهم قبل موتهم، أو من الذين لم يبلغوا الحلم، أو له عذر يعلم حقيقته الله فأمرهم إلى الله بحسب ما ذكر فيهم من نصوص دالة على تمام عدل الله وسعة رحمته.
وختم تصريحه أن الحكم المطلق على أعيان الناس الذين تغيب حقيقتهم عنا تكلف لم يأمر الشرع به ولا يجوز التألي على الله في مثل ذلك، ولا تحميل النصوص الشرعية ما لا تحتمل، وليس أحد أحب إليه العذر من الله سبحانه.