والتقرير التالي يتناول حالة خاصة من الأسواق والتجارة، حيث يوجد مكان لكنه متحرك على الدوام.
نقصد عمليات البيع والشراء على شبابيك السيارات عند تقاطعات الشوارع الكبيرة المزودة بإشارات ضوئية. على هذه التقاطعات تقوم أسواق صغيرة بمواصفات خاصة من حيث السلع ومن حيث ظروف البيع والشراء. فهنا يتحرك الباعة وفقا لتبدل لون ضوء الإشارة، لكنهم يفضلون الضوء الأحمر، الذي لا يفضله الزبائن (أي السائقون).
يتبنى هذا التقرير وجهة النظر التي تقول إن الأولوية للإنسان على الرصيف أو الجزيرة الوسطية أو أعمدة الإشارات الضوئية. ولهذا فالتقرير لا يصغي كثيرا لفكرة الدفاع عن "الوجه الحضاري"، وهي الفكرة التي تقف خلف حملات ملاحقة نشطاء هذا السوق، ذلك ببساطة (وعلى الأقل) لأن البيع على الإشارة فيه من الوجه الحضاري أكثر مما في مشاهد الملاحقة التي تتضمن إلى جانب "قطع الرزق" احتمال تعريض حياة الباعة للخطر.
التقرير ينظر إلى المسألة باعتبارها نشاطا اقتصاديا هامشيا غير رسمي، دافعه الأساسي الحصول على الرزق، وهو ما يعني أنه يعد أحد مسارات المواجهة الذاتية للفقر.
سوق متقلب
لا يكون البيع هنا متواصلا مستقرا، فلا البائع حر في وقته ولا المشتري. فكلاهما يخضع لشروط التبدل الآلي في لون الإشارة، وعلى طرفي عملية البيع أن يحسما امرهما سريعا قبل أن يأتي الوقت الذي يضطران فيه إلى إنهاء العملية قسريا، باستثناءات قليلة تحصل عندما يصر طرف ثالث عادة ما يكون طفلا أو سيدة في السيارة على شراء السلعة، وهو موقف قد يجبر السائق على التوقف قريبا لإتمام عملية البيع، مع ما يرافق ذلك من نظرات حانقة غير اقتصادية بالمرة، بين الأطراف ذات العلاقة.
في الوضع الطبيعي، يتعين على البائع والسائق أن يجريا عملية مفاصلة سريعة حول السعر، ولكن البائع الذكي يعرف زبائنه من النظرة الأولى، فيميز بين المشتري الحقيقي وبين من يريد التسلية بانتظار فتح الإشارة.
إن على بائع الألعاب –مثلا- أن يستهدف السيارة التي يوجد بها أطفال إلى جانب أبيهم، وإذا كانت الأم موجودة، فتلك فرصة إضافية، استنادا إلى حرص الآباء على الظهور بمظهر الكريم أمام الزوجات. أما بائع الورود فعليه أن يسرع نحو السيارة التي تقودها شابة أو شاب بجانبه شابة.
يفضل الباعة في هذا السوق الطقس المعتدل، فالبرد الشديد والحرارة الشديدة، يعني كثرة عدد السيارات التي تغلق شبابيكها، وهو ما يضعف موقف البائع، وقد يعمد إلى طرق زجاج السيارة تحت طائلة النظرات الغاضبة أو الشتائم غير المسموعة أو التطنيش المهين.
وتتنوع البضاعة المعروضة في سوق الإشارات تبعا للمواسم وتبعا لموقع الإشارة كما تختلف بين الصباح والمساء. فالفاكهة مثلا تتبدل بحسب المواسم، وتختلف الأصناف المطلوبة بين الطرق المتجهة شرقا أو غربا في العاصمة. وأنت قد تجد فاكهة من صنف "البكسة بدينار" وقد تأخذها "بخمسة وسبعين" إذا كنت جادا.
وتكثر في سوق الإشارات هذا بضائع كالورود بأصنافها المختلفة، وألعاب الأطفال، ومظلات السيارات صيفا، وعطور السيارات، وعبوات المناديل الورقية، وسلع خفيفة مثل البطاريات أو اللواصق والبخور..
سلعة العلكة.. تسوّل مموه
غير أن العلكة تعد سلعة رئيسية في هذا السوق، لكنها في الواقع عادة ما تكون بديلا مهذبا للتسول. ولهذا يبيعها الأطفال الصغار، والشيوخ كبار السن أو ذوو الإعاقات. إنه تسول مع الحفاظ على حد أدنى من الكرامة، ولا يفضل أغلب الباعة أن يعطيه الزبون نقودا من دون أن أخذ حبة من العلكة، وذلك حتى يتوفر الحد الأدنى من شروط البيع.
غير أن التسول المباشر يعد أحد الأنشطة في هذا السوق. هناك متسولون مختصصون، وقد كوّن بعضهم خبرة وتجربة طويلة في إشارات محددة. وعلى العموم، فإن السوق ورغم حركيته العالية، فقد تشكلت فيه علاقات شبه ثابتة تشبه تلك التي تقوم بين الباعة والزبائن في الأسواق التلقليدية.
ولا يقتصر المعروض في هذا السوق على البضائع والسلع المحمولة، فهناك خدمة شهيرة يقدمها نشطاء السوق وهو مسح زجاج السيارة، يقوم بها عادة فتيان نشيطون يختارون زبائنهم بعناية، وقد يؤدون الخدمة قبل الاتفاق مع السائق، أملا في تخجيله لاحقا.
مجتمع الإشارة
في بعض الأحيان وخاصة في المواسم، قد تتواجد السلعة ذاتها على الشوارع الأربعة، ولهذا يكون على كل البائع أن يحدد موقعه في أحد هذه الشوارع، وأن لا ينافس زملاءه في الاتجاهات الأخرى. ولكن في الحالة التي نفرد فيها بائع بسلعة معينة، يكون عليه أن يقفز بين كل الشوارع ملاحقاً الضوء الأحمر.
والباعة هنا يتعاضدون ويتعاونون في مواجهة دوريات الملاحقة التي تتبع جهات مختلفة، فهم يحملون بضائع بعضهم، ويتقنون التمويه الملائم، ويعرفون أن عليهم الركض في الاتجاه الذي لا يمكن لسيارة الدورية أن تسير فيه، وهو ما يوفر لهم قدرا من المتعة قد تعوضهم عن القلق والتعب، ولكن أسوأ الأوقات هي التي تحضر فيها الدورية في حين يكون البائع على وشك إتمام صفقة بيع.
هناك سلعة جرت العادة ان لا تجري ملاحقة باعتها، وهي الصحف، غير أن سوق هذه السلعة تراجع كثيرا في السنوات الأخيرة، وانتهت علاقات امتدت لسنوات أحيانا بين باعة الصحف وزبائنهم، ولهذا فإن كثيرين من باعة الصحف صاروا يبيعون سلعا أخرى خفيفة للتعويض على خسارتهم في قطاعهم الأصلي.
الأنفاق والجسور هي العدو العمراني الرئيسي لسوق الإشارات والعاملين فيه، ويتعين على الباعة الذين اعتادوا على إشارة، ثم جرى تحويلها إلى نفق أو جسر، أن يبحثوا عن موقع آخر، ولحسن حظهم أنهم ينتمون إلى قطاع تميز بمرونة شديدة في التعامل مع المتغيرات العمرانية والإدارية.