آخر الأخبار
  توجيه صادر عن وزير الاشغال العامة والاسكان المهندس ماهر ابو السمن   تعليق رسمي أردني على مذكرة اعتقال نتنياهو   تركيب 170 طرفا صناعيا عبر مبادرة (استعادة الأمل) الأردنية في غزة   الصفدي: تطهير عرقي لتهجير سكان غزة   هل ستلتزم دول الاتحاد الأوروبي بقرار اعتقال نتنياهو وغالانت؟ جوزيف بوريل يجيب ..   الملك يؤكد وقوف الأردن إلى جانب الأشقاء اللبنانيين   هام لطلبة الصف الـ11 وذويهم في الاردن .. تفاصيل   السفير البطاينة يقدم أوراقه لحلف الناتو   100 شاحنة جديدة تعبر من الأردن لغزة   القضاة يؤكد دعم الأردن لفلسطين اقتصادياً   العرموطي يوجه سؤالا نيابيا للحكومة بشأن السيارات الكهربائية   بدء تنفيذ سحب مياه سد كفرنجة وتحليتها بـ 14 مليون دينار   لجنة أممية تعتمد قرارات بشأن الاستيطان والأونروا والجولان   قائد قوات الدعم الجوي الياباني يشيد بدور الأردن في تحقيق الاستقرار   لأول مرة .. 51 الف طالب وافد في مؤسسات التعليم العالي الأردنية   الأمن العام ينفذ تمريناً تعبويًا لتعزيز الاستجابة للطوارئ   وزير الزراعة: خطط لتوفير 500 مليون دينار في 4 اعوام   الأردن.. ارتفاع تغطية الإيرادات المحلية للنفقات الجارية   الحكومة تقرُّ مشروع قانون موازنة عامَّة للعام 2025   إعلان قيمة زيادة الحد الأدنى للأجور في هذا الموعد

وصفي التل : " عمّان هانوي العرب "راتب عبابنه

{clean_title}


نستذكر وصفي التل ونحن نفتقر لرجل دولة في زمن خفت به مضامين الرجال وندر به الخوف على الوطن وانعدم به الرفق بالمواطن وكثر به ذابحوه. وصفي دائم الحضور بذاكرة الأردنيين لأن من مثله يحفر حيزا بالذاكرة ويخلق إلهاما ومثيرا يصغر أمامه المفرغون من المضمون ويبقى صغرهم شاهد عليهم وعلى عظمة وصفي الذي عجزت أرحام النساء أن تلد مثله والذي كلماته تُسطر كتبا يستنير ويستهدي بها الراغبون بخدمة أوطانهم. كان حالة استثنائية طالما تمنينا أن تنسحب على من تقلدوا موقعه لينقلب الإستثناء قاعدة.

 

الحديث عن المرحوم وصفي التل حديث يلخص أصعب الفترات التي مر بها الأردن إذ كان التهديد متواصل والتخطيط مستمر للنيل من الأردن كوطن وكيان يمشيان ضمن توافقات بين البعض من الداخل وبدعم من الخارج. وذلك المشهد أخذ صورة المقاومة والتحرير مستندا على التعاطف الشعبي العربي داخل الأردن وخارجه. وربما هذا التوجه كان صادق النية والهدف من قبل المقاومة الفلسطينية بادئ الأمر لكن أدوات التنفيذ كانت قاصرة وليس بمقدورها تحقيق الهدف.

 


نضيف لذلك أنه تم استغلال هذا التوجه بقصد تقويض الدولة والإطاحة بنظام الحكم بالأردن سيما أن النظام لم يكن على وفاق تام مع نظام عبد الناصر الذي كان ربان السفينة العربية آنذاك والداعم الأكبر للمقاومة. وجوهر الخلاف كان يتلخص بالخوف من قبل النظام الأردني على الأردن ككيان ووطن وهوية جراء السياسات

 

والتوافقات الدولية التي كانت تطرح في سياق الصراع العربي الإسرائيلي. والأردن هو الأكثر تأثرا بأي اتفاق يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ويعود ذلك لموقعه الجغرافي ووضعه الديموغرافي والإرتباط العضوي مع الفلسطينيين. وهو أيضا لاعب رئيسي لا يمكن تجاوزه ورتب هذا القدر عليه أن يكون مشاركا بكل ما من شأنه أن يؤثر بمسار القضية الفلسطينية. وفرض هذا الواقع مسؤولية كبيرة على الأردن كانت تبعاتها تثقل كاهله باحتضانه للفصائل الفلسطينية المسلحة التي كانت تعاني من الإنقسامات فيما بينها لاختلاف الرؤى لكنها تلتقي عند النظرة الإتهامية للأردن وشعبه ونظامه.

 

من هنا جاءت مقولة شهيد الواجب الوطني الذي نالت منه أيادي الموت الأسود " عمان هانوي العرب " نسبة لهانوي عاصمة فيتنام التي كانت تجمع أحرار فيتنام لمقارعة الأمريكان أيام الحرب على الشيوعية أي المرتكز والساحة التي ينطلق منها زخم المقاومة باتجاه فلسطين العربية.

 

وعمان هي محطة يتزود منها وعندها طلاب النضال من العرب وغير العرب. ووصفي التل عندما قال مقولته تلك لم يدر بخلده لحظة أنه سيُدفع لاتخاذ موقف المدافع عن الأردن الوطن أمام من ينادي باحتضان عمان لهم. وكان يدرك جيدا بعروبيته وحسه القومي العروبي مدى المسؤولية والأمانة التي تحتم عليه عدم التفريط بالحق العربي والمدافعين عنه. لكنه مع تبدل وانكشاف المستور وجد وطنه هو الهدف وشعبه هو الضحية ونظامه هو المستهدف فإن تخاذل فسيوضع بسجل الخونة وحاشاه أن يكون منهم وهو من أعطى الوطنية معانيها الراقية والأردنية أبعادها النقية.

 


والحديث يطول عن شخصية وطنية كوصفي التل دفع حياته ثمنا للذود عن وطنه وحافظ على الأردن مثلما كان شديد الحرص للحفاظ على فلسطين. وهو بعرف الأردنيين شخص غيرعادي حافظ على الأردن بظرف غير عادي وقارع وصارع تيارات غيرعادية وأرسى السفينة الأردنية بمناخ غير عادي أيضا.

 

كانت الضغوط على الأردن كبيرة من الداخل بسبب انفلات الفصائل الفلسطينية المسلحة التي ترى أن الغاية تبرر الوسيلة ومن الخارج الذي غالبه يصفق لشعارات عبد الناصر ذات الوهج التحرري ودغدغة عواطف العرب المتعطشين للحرية وآخرون يرسمون على الأردن وطنا بديلا ويتحينون الفرص ليدعموا هذا الطرح ويعملوا على تحقيقه. وحاول الأردن بحنكة قيادته تفويت الفرصة على كل هؤلاء بالمهادنة والديبلوماسية أحيانا والإحتواء أحيانا أخرى في سبيل إفشال ما كان يخطط بغير صالح الوطن.

 


نستذكر هذا التاريخ الذي كان وصفي لاعبا رئيسيا به, إذ لا يمكننا الحديث عن شهيد الأردن دون التطرق للظروف التي أحاطت باستشهاده. ولا ضير من مراجعة التاريخ لأخذ العبرة والإستفادة من الدروس واستلهام السمين ولفظ الغث.

 

وما دمنا نتكلم تاريخا, نتذكر قولا لشهيد الواجب الأردني متعلق بنظرته للتاريخ :" إن تطَلُّعنا إلى الماضي يجب أن يكون بالقدر الذي يجنبنا الوقوع في الخطأ في المستقبل. إن الواجب الأول هو توفير الطمأنينة و سيادة القانون و النظام. وعندما تؤمَّن هذه الأرضية وستذبل الحكومة المستحيل لتأمينها يكون المناخ صالحاً لإعادة الحياة الإقتصادية و التجارية وكل ما فقدناه من جراء الفتنة إلى وضعها الطبيعي."وهذا القول يعطينا إضاءة على فكر الشهيد نستلهم منه العبرة والغاية من قراءة التاريخ لتبني الصالح منه وعدم سلوك الطرق الوعرة التي تعيق المسير.

 

فإن استعدنا بعض ما مر بتاريخنا فالقصد منه مصلحة الوطن وهذا واجب لن يثنينا عنه كائن من كان وإن كان بيننا من يزعجه ذلك فهو لا يعنيه الأردن حتى وإن تشدق بمثاليات الوحدة الوطنية والأردنيين من شتى المنابت والأصول.

 


فلا يظنن أحد أننا نوقظ فتنة إذ نؤمن بأن موقظها ملعون. ولا يمكننا الإشارة لشخص بحجم وصفي والذي هو دائم الحضور بذاكرة الأردنيين وهو صاحب بصمة وطنية ومدرسة بالعمل الوطني ونستذكر استشهاده, دون الربط بين استشهاده والأسباب والظروف التي أوصلتنا لفقدان رجل كبر بوطنه وكبر به وطنه. وأيضا هو رمز من رموز الوطن تنفتح له الذاكرة كلما اشتدت الأزمة وكثر المتلاعبون بالوطن.

 

تستعيده الذاكرة كلما حاول الأقزام والمقزمون أن نرى الحقائق بعيونهم. لكن مرور أكثر من أربعين عاما على مجريات تلك الحقبة وما شابها من لغط وتشويه للواقع والحقائق وخلق مفاهيم مغلوطة تنصف الظالم وتدين المظلوم, جعل من الواجب علينا أن نساهم بتوضيح الصورة لإحقاق الحق ووضع الحقيقة بين يدي الجيل الذي ما زالت أحكامه تنطلق من التغذية المسمومة التي يراد لها أن تبقى المحرك للكثير مما نمر به هذه الأيام من حراك وتوتر وتآكل.

 


عوْدا على بدء, توصل الأردن لاتفاق مع الفصائل المسلحة يتلخص بعدم حمل السلاح أثناء التجوال ووقف تفتيش المواطنين وعدم التدخل بحياتهم وحمل الهوية وعدم الإحتفاظ بالمتفجرات. وجاء هذا الاتفاق بعد قبول عبد الناصر لاتفاقية روجرز التي مفادها وقف إطلاق النار أو حرب الإستنزاف ولاقى الإتفاق مباركة ودعما من الملك حسين طيب الله ثراه.

 


وفهم ذلك وفسر على غير محمله من قبل الفصائل المسلحة على أنه نوع من الخذلان والتخلي من قبل عبد الناصر ونوع من التوافق بين الملك حسين وعبد الناصر على تبني سياسة جديدة لا تصب بصالح الفصائل. وقد كانوا يعولون الكثير على مواقف عبد الناصر ودعمه السياسي والمادي وثقله العربي والعالمي كزعيم يرعى حركات التحرر ويعمل على الإنعتاق من التبعية للقوى الأستعمارية الكبرى بالإشتراك مع جوزيف بروز تيتو (رئيس يوغسلافيا آنذاك) وجواهر لال نهرو ( الهند ) .

 


وفي الحقيقة لم تلتزم الفصائل ببنود الاتفاق المبرم مع الدولة الأردنية بل زادت من تماديها وتمردها على القوانين الناظمة للشأن العام الأردني وكانت تتصرف دون رادع قانوني أو مراعاة للمثل والقيم المجتمعية التي تضبط العلاقه بين الضيف والمضيف. لا بل نستطيع القول أنهم كانوا دولة داخل دولة يمارسوا سلطتهم دون اعتبار للدولة الأردنية المضيفة والحاضنة والتي عاصمتها "هانوي العرب" فضاق الناس ذرعا بالتدخلات المستمره بشؤون حياتهم وعرقلة مسيرتهم اليومية مما خلق جوا من التذمر والشكوى من هذه الفصائل ومن تريث الدولة الأردنية بمحاولة إيقاف التصرفات التمردية الخارجة على القانون.

 

وهذا التريث جاء ضمن الشراكة بالهم الواحد والإيمان والشعور الأخوي والتعاطف مع مشروعية المقاومة وعدم الرغبة بخلق شعور لدى الفصائل مؤداه أن الدولة تقف حجر عثرة بطريقهم. لكن الفصائل لم تتفهم هذا الإيمان والتريث واعتبرتهما ضعفا بل اتخذت منهما دافعا للإستقواء على الدولة وذريعة للإستمرار بالنهج الاستفزازي الذي أضر بالشعب قبل الدولة.

 

كل هذه المعطيات كانت تدفع باتجاه التصادم المسلح الذي كان الأردن يحاول جاهدا وبشتى الوسائل تجنبه رغم تعالي المطالبة الشعبية الحثيثة بضرورة التدخل. وقد ازدادت الإعتداءات من قبل الفصائل المسلحة على أفراد القوات المسلحة وكانت التحرشات والاستفزازات والإستهزاءات لا تتوقف في الشارع والباصات والمطاعم وكلما وقعت عيونهم على جندي من الجيش العربي.

 

فقد ظلوا طريق العمل الفدائي النظيف وأشغلوا أنفسهم بالناس وأخذوا يصوروا ويتصوروا بأدبياتهم أن النظام الأردني هو المعيق لتحرير فلسطين. القوات المسلحة الأردنية هي قوات منظمة ذات مرجعية مؤسسية عسكرية قائمة على الإنضباط وتسلسل المرجعية وليست مخولة بالتصرف وردة الفعل الآنية دون الرجوع للقيادة المركزية التي تصدر عنها الأوامر والتعليمات وكيفية ووقت الرد. بالمقابل هناك الفصائل المنفلته التي لاتؤمن بالمركزية والمرجعية وانتظار الأوامر من قيادتها بقدر ما تؤمن بالبندقية بل تأتمر بمعطيات اللحظة دون حساب للتبعات والنتائج.

 


ونتيجة لهذا الوضع الخطير الذي حاول النيل من هيبة الدولة وفرض الإرادة الفدائية على الدولة, وجد صاحب القرار الأردني نفسه مجبرا على إيجاد مخرج من الوضع المقلق حيث التأخير بحسم الأمر سيعرض الأردن للمجازفة بوجوده وهويته مما يترتب عليه تأثيرات باهظة الثمن على مجمل القضية العربية.

 


أنا كاتب هذه السطوركنت في الصف الأول الإعدادي ( السابع حاليا ) تم إنزالي بالقوة يوما من السيارة التي تقلني إلى المدرسة من قبل الفصائل الفلسطينية المسلحة عند أحد نقاط التفتيش الكثيرة التابعة لهم. وطلب مني إظهار هويتي الشخصية ( تخيلوا طالب بالصف السابع يُطلب منه حمل هوية عام 1970 ) كما تم سؤالي عمن أحب الجيش أم الفدائيين وعن رأيي بما يحصل ومن أدعم ووصلت يومها للمدرسة متأخرا وعوقبت من قبل المدير على التأخير.

 


وبهذا النمط من التعامل اللامقبول والمستهجن أصبح المواطن الأردني يشعر أنه مطالب بالإمتثال أمام دولتين وتتقاسمه سلطتان ومُطالب بالتماشي مع سلطتين كل منهما غير متفق مع الآخر. فسلطة الدولة التي لا تأكل أبناءها هي المسؤولة عن حمايته وأمنه أصبحت تصطدم مع السلطة المسلحة الخارجة على القانون والتي تتحرك بين الناس مثيرة الرعب والخوف لعدم انضباطها وعدم امتثالها لقوانيين وقيادة مركزية تنظمها.

 

بعبارة أخرى كان هناك شعور بعدم توفر الأمن أدى بالناس للشعور بالخوف على حياتهم وأعراضهم مما زاد من خطورة الأمر لدى الدولة وهي المسؤولة عن توفير الأمن للسكان. إن استمر الحال بسوئه سينقلب للأسوأ وتكون الدولة غير عابئة بأرواح أبنائها وأمنهم, لذلك وضعت أمام خيارين أحلاهما مر. وقد ساد المشهد نوع من الإنفلات الأمني والفراغ سياسي النسبيين بلغا من الخطورة ليخلقا صحوة لدى الدولة باتجاه إيجاد مخرج من الأزمة المتفاقمة بأقل الخسائر على صعيد الدولة وصعيد الفصائل التي كانت مزيجا بغالبية فلسطينية والجيش بغالبيته الأردنية.

 


وقد دُفعت الدولة الأردنية مكرهة وصارت أمام خيار يتيم لا ثاني له وهو التفكير بكيفية الخلاص من المأزق الذي أضعف هيبة الدولة بنظر الشعب الذي يحثها وينتظر منها إيجاد مخرج للوضع المتفاقم والآخذ بالتردي. وكان الأردن ينوء من تحدي الضغوط الشعبية من الداخل والضغوط التقدمية المتمثلة بالعراق وسوريا ومصر ومن خلفهم السوفيات وبعض الدول التي ترقب نهاية الأردن الهاشمي بصمت.

 

وهناك اسرائيل التي تعمل من الحبة قبة لتصطاد بالماء العكر وقد كان الماء العربي آنذاك عكرا جدا وملوثا مما يشكل دعوة مجانية لإسرائيل لتنفيذ ما تريد بحجة حماية أمنها وشعبها. وقد كان الأردن يضرب المثل أمام الدول العربية بصبره وتحمله لسلبيات الفصائل المسلحة التي باتت حملا ثقيلا لا يطاق من قبل الشعب والدولة معا،ورسائل النظام للأنظمة العربية كثيرة والتي كانت تطالبها بالتدخل والتوسط بالحسنى لدى هذه الفصائل للتعقل والإمتثال للإتفاقات التي تم التوصل إليها حقنا للدماء وحفاظا على الخط الثوري الذي كان يجب أن يتمدد بالحفاظ على الأردن ويقوى به وليس على حسابه للوصول لتحرير الأرض المحتلة.

 


وقبول عبد الناصر باتفاقية روجرز اعتبرته الفصائل بمثابة انقلاب على النهج الثوري المقاوم مما أدى بالفصائل الفلسطينية لانقلاب مضاد ساءت جراءه العلاقة بين الطرفين مما أدى للإنفكاك من الضغط الناصري على النظام الأردني وزيادته على المقاومة الفلسطينية. وهنا كانت الطامة الكبرى عندما غابت عن هذه الفصائل وقادتها الحكمة وأخذتهم العزة بالإثم وزادوا من تصعيدهم بالإعتداء المباشر على أفراد القوات المسلحة الأردنية وصاروا أكثر شراسة وعدوانية لدرجة القتل.

 


وفي خضم هذا التجاذب قال جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " سنقلب الشرق الأوسط إلى جحيم ". كما وقال عرفات " سنحرر أرضنا ". وهذه رسائل موجهة للأردن ونظامه وإعلان أن الأردن عقبة عليهم تذليلها والإطاحة بنظامه دون خجل أو ورع. ثم أعقب ذلك خطف الطائرات وتفجيرها في الأردن تنفيذا لمقولتي جورج حبش وعرفات. فصارالأردن بموقف لا يحسد عليه بل بات تحت ضغط شعبي ودولي لضبط الوضع الداخلي وتنظيم الحياة الداخلية والعمل على السيطرة وضبط الإنفلات المسلح الذي شكل خطرا على الشعب والنظام والدولة والكثير من الدول الأخرى التي لم تكن على وفاق مع الفصائل.

 


فارتأى الحسين ببصيرته الثاقبة أن الأرض لا يحرثها إلا أبناءها الغيارى والذين لديهم القدرة على تحمل مسؤولية وتبعات المرحلة المصيرية للعمل بإخلاص لتصحيح المسارين الأمني والسياسي المقلقين. فوقع اختيار جلالته على وصفي التل الذي قلما يرزق الأردن بمثله وكان نعم الإختيار. فقد كان حاملا للهم الأردني والفلسطيني معا وصاحب مشروع نهضوي وقومي وتحريري كان ينطلق به من أردنيته وعقيدته التي لا تفرق بين الأردني وغير الأردني إذ كان متأثرا بحركة القوميين العرب،وعُرف عنه رحمه الله أنه كان يتصرف من وحي منظومة فكرية استراتيجة تؤمن بالإعتماد على النفس وقائمة على الإبتعاد عن التبعية للغير ومقاومة الرضوخ للإبتزاز ولي الذراع.

 


وكان يشارك جلالة الملك حسين بالرأي القائل بعدم دخول حرب عام 1967 لإدراكهما للنتائج الوخيمة والتداعيات الكبيرة التي تفرزها الحرب لكن التغرير الناصري والوعود الزائفة والإستعدادات الوهمية كانت قد أدت إلى ما أدت إليه من هزيمة نكراء واحتلال للأرض العربية (الضفة الغربية, سيناء والجولان).

 

وكانت الإذاعة الإسرائيلية قد أذاعت عشرات المرات المكالمة الهاتفية بين الملك حسين وعبد الناصر يشرح بها الملك ضعف الإمكانات العسكرية والتسليحية وخطورة النتائج ويتساءل عن مدى الجاهزية وكان رد عبد الناصر بتوفر الإمكانات والجاهزية والقدرة والحسم وحاثا الملك على دخول الحرب وتبين أثناء الحرب وبعدها أن الإستعدادات كانت وهما والقدرة ضعفا والحسم لصالح العدو،وقصفت الطائرات الإسرائيلية مطارات الدولة الأكبر والأقوى عددا وعدة دون مقاومة.

 


لذلك حديثنا عن وصفي لا ينفصل عن الظروف التي سبقت اغتياله بأيدي الغدر القذرة والظروف التي صاحبت فترة رئاسته للحكومة الأردنية عام 1970. تسلم وصفي الحكومة ودفة المرحلة وعمل جاهدا بإخلاص على التوصل مع الفصائل لحلول وسط لكن دون جدوى والتصعيد والإستفزاز في هذه الأثناء قائمان على قدم وساق من قبل الفصائل المسلحة.

 

ولم يعد للعقل والحكمة أنصار فوقع المحظور والتقى الجمعان واشتبكت القوات المسلحة الأردنية بعد استنفاذ فرص التهدئة مكرهة مع الفصائل المسلحة والمتمردة وخرج الطرفان خاسران لأن الفائز خاسر عند اقتتال الأشقاء،وقد كانت الظروف والمصالح عندئذ تدفع نحو حرب عربية اسرائيلية إذ كانت الحرب قاب قوسين من الإشتعال.

 

دخول الجيش السوري للأراضي الأردنية أعطى المبرر لإسرائيل للتهديد بحجة الدفاع عن كيانها واستعداد أمريكا لتحريك أسطولها باتجاه الشواطئ العربية خوفا من تدخل السوفيات, أسباب جعلت المنطقة مرشحة لحرب رعناء يذهب ضحيتها الأردن كنتيجة لصراع الكبار حول أطماعهم. وقد حالت ثقة الحسين بجيشه وشعبه الغيور دون وقوع الكارثة المحتمة إذ تمت إدارة الأزمة المفتعلة بمنتهى الحكمة لتجنيب المنطقة ما كان يمكن أن يكون أكثر خطورة على الأردن والقضية الفلسطينية ودول المنطقة.

 


لقد كانت حسابات الأردن بعيدة المدى وليست حسابات آنية وعاطفية أخذت بالإعتبار الإنعكاسات والتبعات المستقبلية التي كانت, لولا الحكمة الهاشمية وبدعم من الغيارى حارثوا أرضهم, ستؤدي لإقفال ملف القضية الفلسطينية. لقد كان وصفي يشترك مع الحسين ببعد النظر والقراءة الدقيقة للمعادلات الدولية وكانا رحمهما الله يتمتعان ببصيرة قلما يتمتع بها الآخرون عمادها الأردن أولا وهو الشعار الذي كان مطبقا بالفعل دون الإفصاح عنه كشعار.

 


وانتهى الصدام المسلح بمغادرة الفصائل الأردن إلى لبنان حيث الرئيس السوري حافظ الأسد وضع شروطا تعجيزية لاستقبال الفصائل لم يقبلوا بها وتكررت في لبنان نفس التجربة تقريبا إذ لم يتوقفوا عن التدخل وإزعاج اللبنانيين وغزت إسرائيل لبنان فغادروها إلى تونس وبذلك تكون قد توقفت المقاومة المسلحة واستحال الكفاح المسلح لتحرير الأرض المحتلة بسبب التشتت العائد للتدخل بشؤون الدولة المضيفة والتخوين للأنظمة إن لم تأتمر بأمرهم وتغير التفاهمات والمعادلات الدولية وعدم التماس المباشر مع العدو ودخول مصر بعملية السلام وتبعها الفلسطينيون ثم الأردن .

 


تشكلت منظمه تدعى منظمة (أيلول الأسود) على أثر الصدام المسلح وخروج الفصائل من الأردن. والتسمية جاءت نسبة لأحداث الأمن الداخلي بين الجيش العربي والفصائل الخارجة على القانون في شهر أيلول من عام 1970،ويسمونه أسودا ونسميه أبيضا لزوال الفتنة والخروج من الأزمة التي كانت ستهوي بالأردن.

 

وهذه المنظمة القائمة على الدم والقتل والإغتيال هي التي ارتكبت كبيرة بحق الأردنيين إثمها سيطاردها ما عاشت، إثم أسمته عملا وطنيا وبطوليا ونسميه فعلا إجراميا جبانا لا ينمحي من ذاكرة الأردنيين. وقد حُمِّل وصفي الكثير من النقد واللوم واتهم اعتباطا بتصفية المقاومة الفلسطينية ودحرها خارجا ذاكرين النتائج ومغفلين الأسباب، وكان ذلك يصدر من أبواق عبد الناصر الإعلامية التي نفخت كثيرا وأوهمت الكثيرين لاعبة على وتر القومية والتحرر حتى مللنا شعاراتها والتي كانت متفرده بالساحة الإعلامية العربية بإذاعاتها وصحفها.

 


كانت فلسطين دائمة الحضور بوجدان وأحاديث وخطط وصفي ولم يغب عنه التفكير والعمل والتخطيط بكيفية تحرير فلسطين ويوم استشهاده كان يحمل مشروعا ينوي عرضه على مؤتمر وزراء الدفاع العرب في القاهرة يقوم على فكرة ضرب طوق حول اسرائيل بمساعدة الدول العربية ومما جاء بمشروعه:
** تشكيل ثلاث جبهات دفاعية بصورة رئيسية وجبهة رابعة للهجوم والتصدي.
** الجبهة الجنوبية وتتشكل من القوات المصرية، والجبهة الشرقية من القوات الأردنية والعراقية ، والشمالية من القوات السورية والقوات اللبنانية، والوظيفة الرئيسة لهذه الجبهات هي صد العدوان وردعه كلما حاول الاعتداء أوالتوسع أوالإنتقام.
** الجبهة الرابعة وهي الجبهة الوسطى وتتشكل بصورة رئيسية من المقاومة الفلسطينية لاستنزاف العدو.
** تقوم الجبهات الثلاث بدعم الجبهة الرابعة ومواجهة جميع ردود فعل العدوعلى تحركاتها.

 

وطالت يد الغدر الجبانة لهذه المنظمة الدموية السوداء حياة الشهيد وصفي التل يوم 28/11/1971 في القاهرة بإغفال من قبل الأمن المصري الذي لم يوفر الحماية الكافية لشخص مستهدف ورئيس وزراء دولة حل ضيفا على الدولة المصرية. وتم محاكمة بعض القتلة صوريا كتغطية لإغلاق ملف الإغتيال. ثم سرعان ما أخلي سبيلهم مما يدلل على التسهيل المدبر من قبل السلطات المصرية بعهد السادات الذي كان قد تسلم منذ شهور الحكم بعد وفاة سلفه عبد الناصر.

 

واغتيال وصفي جاء ضمن سلسلة اغتيالات في سياق التحول عن الخط الفدائي الذي كان يجب أن يوجه الجهد من خلاله نحو التحرير. فصارت الثورة تأكل أبناءها بسبب التصور أن كل جهة هي وحدها التي تملك الحقيقة ولا مجال لقبول الرأي الآخر.

 

والنتيجة هي انقلاب على الذات أمات التعاطف والتأييد الذي كانت تستقطبه الفصائل من شتى الدول, فأنهكت نفسها واستنزفت قدراتها على الإستمرار بالنهج الثوري المقاوم وتغلبت المصالح الفردية على المصلحة الوطنية مما دفع بالنهاية لتشكل هيكلية هلامية قادت إلى الوضع القائم.

 


فعندما كان وصفي الرجل الجدير بالمرحلة والمرحلة جديرة به بدعم من الحسين والجيش والشعب كان يدرك ويؤمن بقرارة نفسه أنه يعمل على إنقاذ وطنه الأردن من مؤامرة حاكها البعض وغرر بالفصائل الفلسطينية وأوهمها بجدوى التمرد ومحاولة تنفيذ الإطاحة بالنظام والسيطرة على الوطن الأردني لتحقيق مرادهم. وراهن الكثيرون على صمود الأردن وبقائه لكن بإيمان قيادته ورجالاته الذين كعادتهم يتفجرون أردنية استطاعوا حسم الموقف وإعادة المياه لمجاريها.

 


ومن أبلغ ما قيل برثاء وصفي تعبيرا عن أن الزمان قلما يجود بمثله بلسان الشاعر محمد محمود العزام:
من أنت ؟ كي يقف النهار على يديكَ مُطأْطأَ الشمسِ التي اقترحتك سُكْنى
من أنت ؟ كي لا يُنْبِتَ الشجرُ المُعتَّق في التراب سواك - مُذْ قطَعوك – غُصْنا

 

قد زاد وصفي سجل الشهداء شرفا وزاد معنى الوطنية سموا وكحّل مفهوم الإنتماء فعلا لا قولا وجعل التواضع والبساطة والزهد والتفاني عناوين يستهدي بها ومفاتيح فتحت له قلوب وعقول الأردنيين لأنه تمرغ بترابهم وتوضأ بمائهم وشرب من آبارهم وجبل من نفس طينتهم. فلا بد له إلا أن يكون منهم ومثلهم شامخ القامة مرفوع الهامة عزيز النفس نظيف اليد.

 

كان الأردن يعيش بجوارحه ووجدانه ومن شدة إيمانه وعشقه لوطنه الذي لم يساوم عليه يوما, وجه له أحدهم نقدا بخصوص خطأ نحوي قائلا: مخزونك من اللغة ضعيف. فرد ورده كعادته يفيض بحب وطنه والتفاخر به قائلا : لكن مخزوني الأردني قوي. أين الرويبضة من هذا الأردني إذ أنني أقسم أنهم يخجلون بل لا يتجرأون على قول جملة تقترب من جمل وصفي المتغنية بالأردن لأن قلوبهم لا مكان بها للوطن.
رحم الله فقيد الغيارى سائلين الخالق القدير أن ينبت الشجر المعتق في تراب الأردن غصنا تقر به عيون الأردنيين الباكية حزنا على من رفع هامة الأردن.
وحمى الله الأردن والغيارى على الأردن. والله من وراء القصد.
[email protected]