كتب الدكتور مصلح الطراونة رسالة مؤثرة وجهها لابنه الراحل محمد الذي توفي بحادث سير قبل نحو شهر.
وتاليا نص الرسالة:
سلام لك أيها الطاهر في ثراك
الى محمد في يوم ميلاده العشرين إلى الغائب عن المكان وما قد غاب عن العيان ، سلام لك أيها الطاهر في ثراك، سلام لابتسامتك التي ملأت المكان يوما حبا ومرحا، سلام لقلبك المحمل بالطهر والطيب… ما كنت أظن يوما أني سأكتب لولد يغيب عن عيني و لن يعود، ما كنت أظن أن الدهر سيمتحنني بهكذا امتحان… وما أصعيه من امتحان، العادة أن يكتب الأبناء لآبائهم الغائبين، و لكني أكتب لفلذة كبد توارت عن نظري وما تورات عن شغاف قلبي، أكتب لمن ترك المكان فارغا صامتا شحيحا بكل فرح…. أكتب من وراء جدار الفقد متواريا وراء غيابك المضني وطيفك صورتك قادما من الخارج تنادي بصوتك علي… (يا ابوي شلونك).
قبل عقدين ونيف فرحنا كأي أب و أم رزق بابنه الأول، رزق بسند من عثرات الكبر وحوادث الزمان، فرحت بك وفرحتي ملأت المكان حولي بقدومك البهي، وما ظننت أني سأنعاك بهذا العمر،… – ولكن اللهم لا اعتراض – توارت أحلامك فجأة وغاب صوتك دون سابق إنذار، وأصبح المكان من بعدك يا بني يصرخ بصمت فقدك، كبرت يوما بعد يوم، وتابعت فيك كل تغيير، منذ أن صرخت صراخك الأول حتى صرختُ عليك، بهدوء معاتبا طيبتك المفرطة في زمن قذر.
نضجت أمام عيني باكرا، ورأيت فيك ما لا أراه بنفسي، حلمت بك و حلمت لك، بنيت عمري بك يا بني، وها أنا أجر قلم الخيبة مضمخا بحبر الغياب، كنت انتظرك تحمل المسؤولية عني علي اتنفس قليلا، وكنت تقول (ربنا يطول في عمرك يا ابوي).
يا بني… أي صبر سيضمد جراح غيابك؟ وأي جلد سأتجلده أمام الجميع على انكسار الحياة في عيني؟؟ أي أحلام سأبنيها من بعدك وأنا الذي أقف بعد منتصف الطريق؟ لم يزل ثراك نديا ومن الطبيعي أن يكون الجرح غائرا ولكن لا أظن أنه سيندمل بسهولة، ولن يندمل، ولا أظن أن غيابك سيصبح مستساغا في يوم من الأيام ولكنه بالتأكيد سيكون رفيقا ثقيلا.
قبل أسابيع، قدمت علي في المكتب، دخلت ودخل معك البهاء، تدخلت كعادتك وبحماسك الأولي، وكأنك تنظر في قضيتك الأولى، مرتبكا بين ما يجب وما لا يجب، وأنا أتابع فيك كل حركة قلقا عليك خائفا من نوائب الدهر ومن لايذات الزمان، وكأنني أنظر في وجعي، ظننت أني سأفرح بمرافعتك الأولى أو ببحثك الأول كأي أب، وظننت أني سأقف يوما شامخا أمام فتاة أخطبها لك، واناديها هلا فيكي عموه، ولكن بين ظني وبين قدر الله – ولا اعتراض على قدر الله – حدث ما لم يحتمل.
بني… أسأل الله أن يجعلك من أهل النعيم، وأن يرزقك الجنة، وأن يجبر كسر العمر وعثرته بغيابك…