تتوقف بنا عربة الغولف الخاصة بنيك سو أمام المسجد. ومن خلال النافذة، أراه ينضم لثلاثين آخرين متجهين نحو القبلة، مرتدين جلابيب ناصعة وأغطية رأس مُطرَّزة. صوت الأذان فقط هو ما يملأ الشوارع. وفتاتان محجبتان تسيران، بينما يقف شاب ويدخل المسجد متأخراً.
يتدفق صوت المؤذن من السماعات فيقول: "حي على الصلاة”.
عادةً ما يربط الأستراليون الأذان بالسفر، أما الغريب والنادر فهو أن تكون في مقهى في مراكش تحتسي الشاي بالنعناع، أو تراقب الشروق بفندق في أغرا يطل على تاج محل، أو تمشي على شاطئ البوسفور في تركيا في موسم الشتاء. هذا هو ما شهدته دائماً كأجنبي.
بجوار المدرسة والميناء، أراقب الأنوار التي تعكسها مياه البحيرة، وأتذكر أنني لم أسافر بعيداً من قبل. هذه لا تزال أستراليا، حيث الكثير من الناس لا يأتون لزيارتها. أنا هنا ضيف عامل البناء والصياد والجد وإمام المسجد، نيك سو، أكبر قاطني الجزيرة الوحيدة المسلمة في أستراليا.
إن جزر كوكوس (كيلينغ) هي حزام مرجاني بديع الألوان يبعد 2000 كيلومتر عن الساحل الغربي لأستراليا، ولكنها لا تزال جزءاً من أستراليا، كجزءٍ من المحيط الهندي. ومن المثير للاهتمام أن عدد السكان المسلمين هنا يفوق السكان الآخرين، بنسبة أربعة إلى واحد وفقا لموقع هافينتغون بوست.
وتربط الجزر علاقة غريبة بالإسلام. اكتشفها كابتن ويليام كيلينغ من الشركة الهندية الشرقية في عام 1609، ولكنها لم تُعمَّر بالسكان حتى وصل إليها التاجر الاسكتلندي جون كلونيز روس، والتاجر ألكساندر هير، في أوائل القرن التاسع عشر.
كان جون كلونيز روس معمارياً مخضرماً، جلب معه العمال الهنود والصينيين والماليزيين، لحصد جوز الهند واستخراج زيته، وكان هؤلاء المسلمين الأوائل على الجزيرة. لم يكن هير رجلاً عملياً. كان مصحوباً بالعبيد و23 من النساء من الهند الشرقية، وغينيا الجديدة، وموزمبيق، ليملأ جزيرته الساحرة الخاوية.
لم تفلح فكرة هير، فرحل، ونصَّب كلونيز روس نفسه ملكاً على الجزر. أُدِيرَت الجزر كإرث عائلي حتى انتقلت إلى الإدارة الأسترالية في عام 1955، وصوَّت الناس للاندماج في عام 1984. بعد فشل التوجهات الاستعمارية لجماعة كلونيز روس، استقر السكان، الذين كانوا يعملون بالسخرة سابقاً على الجزيرة الرئيسية، وكانوا جميعاً تقريباً مسلمين سُنَّة، وأقام أغلب السكان في الجزيرة الغربية.
استقللت المركب عبر البحيرة نحو الجزيرة الرئيسية، وانتظرني في الميناء شخصٌ طويلٌ ذو وجهٍ بشوش يرتدي قبعة بنية، يبدو ممشوقاً بالنسبة لشخصٍ في الثالثة والسبعين من عمره. يبتسم ويقول لي: "اسمي نيك سو”. اسمه يعني "الجد”، وهكذا يناديه أهل الجزيرة الرئيسية.
عبرنا من الميناء باتجاه البيت. الممرات المرصوفة مملوءة بالدراجات وعربات الغولف الواقفة تحت نخيل جوز الهند. تصميم البيوت متطابق هنا، حيث الغرف الكبيرة جيدة التهوية، والمطابخ في الهواء الطلق. كلها موصولة بممراتٍ ضيقة لا تشبه أي مكان في كوالالمبور أو جافا. يحمل لنا هواء الظهيرة رائحة التوابل والسمبوسة.
يشير نيك سو إلى ملجأ الأعاصير المرتفع ويقول: "أنا من بنيت هذا”.
نكمل طريقنا في الممرات الضيقة، فيشير إلى المدرسة ذات اللون الأصفر ويقول: "وهذه أيضاً”.
نيك سو ليس كثير الكلام، على الأقل ليس بالإنكليزية. لغته الأم هي الماليزية، كمعظم سكان الجزيرة الرئيسية. لغتهم مميزة، وتطورت بعد عبورها المحيط منذ جاء أول العاملين بالسخرة إلى هنا.
توقفنا عند مسجد ضخم. قبته فضية، وأرضيته ما زالت بلا دهان. ومقارنةً بالمباني الليفية المتواضعة، يمثل المسجد خطوة إلى الأمام في البناء، ويؤوي كل سكان الجزيرة الرئيسية الأربعمائة. يقول نيك سو: "كل السكان هنا مسلمون”.
أخبرني أيضاً أن الكثير من الأطفال الصغار هنا يمارسون شعائر الإسلام بحماس، الأمر الذي لم يره في بلدانٍ أخرى في البر. عاش نيك سو في أستراليا الغربية في سبعينات القرن الماضي، ولا يزال يذهب بانتظام إلى بيرث، وبورت هيدلاند، وخليج جوريان.
الإيمان بالقدر هو جزء أساسي من حياة الكبار والصغار على الجزيرة الرئيسية. في ظهيرة كل أربعاء، يقوم نيك سو وكبار الرجال في الجزيرة بتعليم الأطفال ثقافتهم المزيجة من جزر الكوكوس وماليزيا، والإبحار، والرقص، وبناء قوارب الجوكونغ المحلية، لبناء قنوات بينهم وبين ماضيهم. أخبرني نيك سو أيضاً أن 85% من سكان الجزيرة الرئيسية قاموا بزيارة مكة.
نستمر في المضي عبر ممرات سيارات السباق الصغيرة في الجزيرة. وعلى حافة المياه الملتفة، قام نيك سو بتحية مجموعة من الشباب يلعبون مع أطفالهم في المياه الضحلة. في وقت لاحق توقفنا عند أحد البيوت لمقابلة عائلة نيك سو. يجلس عمر أخو نيك سو وزوجته التي ترتدي حجاباً برتقالياً، بينما تقوم هي بتحضير وجبة خفيفة.
عندما دخلنا من باب المطبخ، قاما بإلقاء التحية علينا وقالا: "سلام”. يلاحظ عمر أنني أجنبي، فيبتسم ويقول لي: "كيف حالك يا صديقي؟ اجلس”. تنبعث رائحة القرنفل من سجائر كريتيك، فتمتزج بتوابل القلي المنبعثة من المقلاة، وتشعرنا بالثقافات الممتزجة في هذا المكان.
يمر طريق عودتنا على بيت أوقيانوسيا، وهو البيت الاستعماري السابق لعائلة كلونيس روس، بيت كبير أبيض من طابقين يطل على المياه، وتحف أوراق شجر الكروم على النوافذ المتهالكة. تسبب الملح في توليد طبقةٍ من الصدأ أحاطت بالمنزل بأكمله، إلا أنه لا يزال شاهداً متهالكاً على الماضي القديم لجزيرة هوم.
لاحقاً ذاك المساء، تناولت الغداء مع نك سو في مطبخه المتواضع- وجبة من سمك سويت ليب، وسمبوسة وخضراوات.
نظرت إلى حبات البازلاء الصغيرة والجزر في طبقي ثم ذكرت أنني لم أر الكثير من المزروعات في جزيرة هوم. قال نك سو: "من الصعب زراعة أي شيء بسبب التربة، فهي في أغلب الأحيان مجرد تراب”. لا يوجد هنا أكثر من الموز وقصب السكر والدرنات. يعتمد سكان الجزيرة على الشحنة التي تأتي كل شهر ونصف الشهر من أستراليا لإكمال ما يزرعونه وما يصطادونه. وبينما كنا نأكل، حكى لي نك سو قصصاً عن مقابلة الملكة عام 1955 حين زارت الجزر. قال نك سو، مبتسماً: "قابلت الملكة إليزابيث، ومع ذلك لم أقل شيئاً. كنت خجولاً جداً”.
نك سو مثال للرجل المكتفي ذاتياً تماماً. لا يستطيع القراءة أو الكتابة، لكنه يستطيع بناء منزل، وقارب، ويستطيع الصيد، واعتقاده الديني في القلب من كل هذا. بينما كنا ننتهي من طعامنا أسرع لأداء صلاة العشاء، وهي واحدة من صلوات خمس يعرفها الجميع في الجزيرة.
ذهبنا إلى قارب نك سو مبكراً في اليوم التالي مع ابن أخيه أوسي، لنرى بأعيننا بعضاً من اكتفائه الذاتي. الصيد، كما هو متوقع، نشاط يجمع المجتمعين في جزر كوكوس ويساعدهم على تحمل تكاليف الحياة. خلال دقائق لاحظت أجساماً سوداء طافية تحتنا بحجم موائد الغداء.
صاح أوسي متعجباً: "سلاحف!”. هناك مئات من سلاحف البحر في البحيرة، إلى جانب عددٍ وفيرٍ من الأسماك، والقروش، والشفنينيات وأبقار البحر.
مدَّ نك سو ركبتيه اليابستين برفق بينما كنا نركب الأمواج في طريقنا إلى المياه العميقة. عندما كان نك سو صغيراً كان يعمل مع متحدثين آخرين بلغة الملايو، في جزيرة ساوث، في جمع ثمار جوز الهند لعائلة كلونيس روس لتقشيرها وبيعها في الداخل الأسترالي.
قال نك سو: "كنت أجمع مائة ثمرة في حقيبة. وكنا نحمل خمسة آلاف ثمرة جوز هند على أكتافنا كل أسبوع”.
الشمس فوقنا مباشرة، وقاربنا مليء بالأسماك التي سوف نشاركها مع العائلات في جزر هوم، لذا فقد عبر أوسي ونك سو البحيرة لينزلاني في جزيرة وست لمقابلة باقي السكان المحليين. الكثير من سكان جزيرة هوم يعملون في جزيرة وست، في مركز خدمة الزوار، والمدرسة، والمركز الطبي، والمقاهي الموجودة في الجزيرة. هناك أيضاً سكان من جزر وست يركبون المعديَّة يومياً للعمل في جزيرة هوم.
تُخصَّص أوقات الظهيرة للعب الغولف عبر المدرج الدولي، أما فترات المساء فهي للعب التنس، أو لاحتساء الشراب في الحانة، ويبدو أنَّ هناك مناسبة للسكان المحليين كل يومين. بالنسبة لي، يبدو الدين في المركز من كل ما يجري على جزيرتي هوم، ووست، والسكان هم القوة الدافعة. لا يبدو أنَّ من المهم لو كان السكان ينظمون بناء مسجد جديد، أو مسابقة في نادي الغولف، فهؤلاء الناس يعيشون مع بعضهم البعض على خلفية هذا الحس المجتمعي.
أخبرتني مديرة التسويق في مركز خدمة الزوار، وتُدعى جولز، أن التفاعل في الجزر شيء يعتنقه الناس هنا. وقالت: "بناتنا كلهن يتطلعن لعيد الفطر عندما نذهب جميعاً لجزيرة هوم للاحتفال معاً”.
كلا المجتمعين يستمتعان بالإفطار معاً صبيحة أول أيام العيد، وما يصحبه من شعائر بينما ينتظرون حلول العام الجديد. تُزَيَّن البيوت بالأضواء الحالمة، ويأكل الناس معاً في بيوت مفتوحة، ويذكرون من ماتوا من أقاربهم. حتى لو لم يكن المجتمعان قريبين من بعضهما كما كان الحال منذ عشرين سنة خلت "بسبب تأثير الداخل الأسترالي” كما يقول تيري واشر، أحد السكان المحليين، إلا أنَّ هناك ما يدعو للأمل في هذا المكان.
لقد حمت العزلة هذا المجتمع إلى حد ما، من خطاب راي هادلي، وباولين هانسون والبقية. لو لاحظ المزيد من الناس تاريخ التعايش بين سكان جزر هوم ووست، دون الإنصات إلى الضوضاء الخارجية وضغط وسائل الإعلام، ربما يلهمه ذلك بعض الأمل.
يطلق أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة لاتروب الأسترالية، نيكولاس هريسما، على الملايو من سكان كوكوس "أقدم مجتمع إسلامي وجنوب آسيوي، مستمر دون انقطاع، في أستراليا”، وفي الجزر، هذا أمر يدعو للاحترام والاحتفاء.
في اليوم التالي انتظرت في مقهى كوكوس مالاي بمطار جزيرة وست، بينما كانت سيدة محجبة تقلي بعض السمبوسة للكهربائيين الذين أنهوا ورديتهم على الجزيرة. تأملت فيما تولَّد لديَّ في البداية من أفكار في أنَّ العزلة هنا ربما تكون قد تسببت في الخوف وانعدام الثقة. لكنَّ الحقيقة أنَّ "حوض السمك” هذا قد أتاح لهم الحفاظ على الحس المجتمعي والتعايش بطريقة لم يعد الكثير من الأستراليين يعرفونها.