وكاله جراءة نيوز - عمان - في أعقاب صدور نظام الخدمة المدنية المعدل رقم (52) لسنة 2011، اتصل بي عدد من أصدقائي وطلابي، يسألوني عن مدى دستورية انطباقه على مؤسسة الضمان الاجتماعي وموظفيها.
في كل مرة كنت أبدي عذري لعدم وجود متسع من الوقت لدراسة النصوص ذات العلاقة، بسبب انشغالي في إعداد كتيّب حول ضرورة «إصلاح الإصلاحات الدستورية».
وبالفعل، أنهيت ما بدأت به، وعدت إلى نظام الخدمة المعدل أدرسه، في ضوء نصوص الدستور وقانون المؤسسة رقم (7) لسنة 2010، لأتصل بعد ذلك بعدد ممن طلبوا معرفة رأيي، وأطلعهم على ما توصلت إليه. وحيث إن ذلك قادني إلى وضع دراسة موجزة بهذا الشأن، فقد وجدت أن عليّ نشرها، فلعل فيها بعض الفائدة، وذلك على النحو التالي:.
1) وفقاً للمادة (24) من الدستور، فإن الأمة هي مصدر السلطات. وحيث إن الأمة أو أي شعب، لا يستطيع الاجتماع ليفرز السلطات في الدولة، فإن هذا الشعب يختار ممثلين لينوبوا عنه في تجسيد إرادته بشأن تلك السلطات. ومن هذا المنطلق، نصت المادة الأولى من الدستور الأردني على أن نظام الحكم نيابي ملكي وراثي.
وهكذا فإن مجلس النواب الأردني يجسد إرادة الشعب، عندما يعطي الثقة للحكومة لإدارة شؤون الدولة، وعندما يشرع القوانين كصاحب ولاية عامة. وقد راعى الدستور الأردني أن يؤكد في المادة (45/1) من الدستور على أن يتولى مجلس الوزراء إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية. لكنه استثنى من هذه الصلاحية العامة أمرين هما:.
الأول: ما قد عهد به الدستور من تلك الشؤون إلى أي شخصٍ أو هيئةٍ أخرى.
الثاني: ما قد عهد به القانون الذي تصدره السلطة التشريعية إلى أي شخصٍ أو هيئة أخرى.
وهنا يلاحظ أن المادة (45) قبل تعديلها، كانت تنص على أن يشمل الاستثناء ما عهد به «أي تشريع آخر» إلى أي شخصٍ أو هيئةٍ أخرى. لكنه في التعديل الدستوري الذي جرى في 1/10/2011 تم حذف عبارة «أي تشريعٍ آخر»، وأحل مكانها كلمة «قانون» فحسب.
وواضحٌ هنا أن عبارة أي تشريعٍ آخر عبارة واسعة المضمون، ويمكن أن يدخل فيها القانون والنظام الذي تصدره الحكومة. ومن أجل أن لا يُبقى الدستور على هذا الاتساع وتمارس الحكومة صلاحياتٍ بإصدار الأنظمة تعطي فيها بعضاً من صلاحيات إدارة شؤون الدولة إلى أي شخصٍ أو جهةٍ أخرى، فإن المشرّع الدستوري قد حصر هذا الأمر بالقانون وحده، أي حصره بالجهة التي تحددها السلطة التشريعية المجسدة لإرادة الشعب في القانون الذي تصدره.
2) وانطلاقاً مما سبق، فإن السلطة التشريعية هي صاحبة الاختصاص في تحديد الجهات المستثناة التي يكون لها صلاحية إدارة أي من مرافق الدولة، وبيان الكيفية التي تُمكّن هذه السلطة من معرفة مجريات ما يحدث في تلك الجهات.
ومن هنا، فقد صدرت بعض القوانين في الدولة، لإنشاء مؤسساتٍ تقوم على إدارة بعض المرافق العامة، على نحوٍ يراعي خصوصية تلك المرافق، وما تتطلبه إدارتها من صلاحيات، لتحقيق الغاية المطلوبة.
ومن هذه المؤسسات على سبيل المثال، مؤسسة الضمان الاجتماعي والبنك المركزي والجامعات الرسمية. فقانون مؤسسة الضمان الاجتماعي ينص في مادته الثامنة على أن:.
«تنشأ بمقتضى أحكام هذا القانون مؤسسة تُسمى (المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي) تتمتع بالشخصية الاعتبارية وذات استقلال مالي وإداري ولها بهذه الصفة أن تقوم بجميع التصرفات القانونية وإبرام العقود بما في ذلك حق التقاضي وتملك الأموال المنقولة وغير المنقولة واستثمارها وقبول الهبات والإعانات والتبرعات والوصايا والاقتراض والقيام بالإجراءات القانونية...».
وقد راعى القانون خصوصية مؤسسة الضمان، وطبيعة عملها في إدارة الأموال التي تدخل في ذمتها. ففي المادة (19) التي تحدد مصادر تلك الأموال، نجد أن الرافد المالي الأساسي لهذه المؤسسة، هو الاشتراكات الشهرية التي تُدفع من قبل المنشآت والمؤمن عليهم، وكذلك ريع استثمارات هذه الأموال. وحيث إن المالك الحقيقي للأموال الداخلة في ذمة المؤسسة هم المشتركون المؤمنون فيها، ولا شأن لهذه الأموال بمال الخزينة الذي يخضع لإدارة الحكومة، فإنه ومراعاةً للطبيعة الخاصة التي ينفرد بها عمل هذه المؤسسة أيضاً، نص القانون على أن تكون ضمن الإطار التنظيمي لإدارة أموال المؤسسة، مجالس وإدارات تتكامل الأدوار والواجبات التي تقوم بها، على نحوٍ يحقق غايات المؤسسة وأهدافها، مثل مجلس التأمينات، صندوق استثمار أموال الضمان، ومجلس استثمار أموال الضمان، ولجنة المراقبة، ولجنة الحوكمة (مواد 13، 14، 16، 17 على سبيل المثال).
3) ويُلاحظ أن البناء التنظيمي لمؤسسة الضمان الاجتماعي وما يدخل في هيكلها من وحداتٍ متخصصة على النحو السابق، تظل أموراً وصفية ساكنة تخلو من الحياة، بدون موظفين وعاملين بمواصفات معينة في تلك الوحدات، لإعطائها الفاعلية في تحقيق المطلوب.
ومن هنا فقد نص القانون في المادة التاسعة، على تكوين مجلس إدارة يقوم على شؤون هذه المؤسسة، وراعى النص أن يتولى رئاسة مجلس إدارة المؤسسة وزير العمل، ليكون همزة الوصل بين المؤسسة والحكومة، والمجلس التشريعي الذي شرّع استقلالها. وأعطى القانون في المادة (11) لهذا المجلس، صلاحية إقرار الهيكل التنظيمي، وجدول تشكيلات الوظائف ووصفها، ووصف المهام والمسؤوليات في المؤسسة، وذلك انطلاقاً من أن من يتولون تلك الوظائف، هم الذين يقومون بتنفيذ السياسة العامة للمؤسسة بشقيها التأميني والاستثماري وتنفيذ الخطة العامة لاستثمار أموال المؤسسة، حسب ما جاء في المادة (11) المذكورة، علماً بأن تلك الأموال والاستثمارات بلغت في الوقت الحاضر المليارات.
4) ووفقاً للمادة (107) من قانون مؤسسة الضمان، يتولى مجلس الوزراء إصدار «الأنظمة اللازمة لتنفيذ أحكام قانون الضمان، بما في ذلك الأنظمة الخاصة بالموظفين والمستخدمين والشؤون المالية واللوازم والعطاءات واستثمار أموال المؤسسة...»، وهذا النظام هو نظامٌ تنفيذي وليس نظاماً مستقلاً.
قد يقال هنا إن النظامين التنفيذي والمستقل، يصدران عن مجلس الوزراء، وبالتالي فإن النظام المستقل يمكن أن يحل مكان النظام التنفيذي بخصوص موظفي الضمان. لكن مثل هذا القول ليس سليماً البتة، لأن صلاحية مجلس الوزراء مختلفة في الحالين من حيث مضمونها ومداها. فمجلس الوزراء أعطته المادة (31) من الدستور صلاحية إصدار النظام التنفيذي، وصدر النظام بموجب قانون المؤسسة، ووظيفة هذا النظام تفصيل ما أجمله القانون الذي أصدرته سلطة التشريع، ومن ثم، فإنه لا يجوز لأحكام هذا النظام وفقاً للدستور أن تخالف القانون، أو تعدل فيه أو تضيف عليه، أو تنتقص منه، وإلا فإن مجلس الوزراء يكون قد أحل نفسه مكان سلطة التشريع، خلافاً لمبدأ الفصل بين السلطات.
أما النظام المستقل الذي يصدره مجلس الوزراء، فسنده الدستور وليس القانون. فنظام الخدمة المدنية كنظام مستقل، يصدره مجلس الوزراء بموجب المادة (120) من الدستور، وصلاحية مجلس الوزراء بشأن هذا النظام، صلاحية تشريعية كاملة، من حيث تضمينه قواعد عامة ومجردة، تماماً كسلطة التشريع في إصدارها للقوانين. لكن صلاحية مجلس الوزراء في إصدار الأنظمة المستقلة، هي صلاحية استثنائية، كما سنرى، حدد الدستور مضمونها ورسم حدودها ومداها، وبالتالي، لا يستطيع هذا المجلس، بموجب تلك الصلاحية الاستثنائية، أن يشرع في نظام الخدمة المدنية، نصوصاً تلغي أو تعدل في الأنظمة التنفيذية التي نصت القوانين على صدورها لتنفيذها، وإلا اعتبر ذلك خارجاً على مبدأ الفصل بين السلطات.
5) بالرجوع إلى النظام المعدل لنظام الخدمة المدنية رقم (52) لسنة 2011 المنشور في العدد (5132) من عدد الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 18/12/2011، نجد أن هذا النظام في المادة (3) والمادة (178)، قد جاء متعارضاً مع قانون مؤسسة الضمان الاجتماعي، وفي المادة (190/أ) أُلغي نظام موظفي المؤسسة رقم (93) لسنة 2007 الصادر بموجب المادة (107) من قانون تلك المؤسسة، وبالتالي، جعل هذه المؤسسة وحدة من الوحدات البيروقراطية التي تدخل تحت صلاحيات الحكومة، وتعامل معها على هذا الأساس.
والسؤال هنا: ما هو حكم هذا التعارض، وأي التشريعين هو الواجب التطبيق، نظام الخدمة أم قانون الضمان وأنظمته التنفيذية؟.
قد يُقال هنا بأنه ما دام أن النظام المذكور هو نظام مستقل صدر استناداً إلى المادة (120) من الدستور، فإنه يصبح بهذا السند في مصاف القانون الذي يصدر سنداً للدستور أيضاً، وبالتالي فإنه يمكن أن يعدل قانون مؤسسة الضمان، أو تكون له الأولوية في التطبيق عليه، لارتباطه بشؤون وظيفية وموظفين. لكنه يرد على هذا القول بما يلي:.
أ. إن الأصل أن صاحب الولاية في التشريع هو السلطة التشريعية، إذ لها الحق في التشريع في جميع المسائل، باستثناء ما خص به الدستور سلطة أخرى، وبالتالي فإن نص المادة (120) من الدستور، هو نصٌ استثنائي أخرج سلطة التشريع بأمورٍ محددةٍ على سبيل الحصر من ولاية السلطة التشريعية، وأعطاها للسلطة التنفيذية. وفي هذا يؤكد المجلس العالي لتفسير الدستور في قراره التفسيري رقم (1) لسنة 1965 تاريخ 1/5/1965 المنشور على الصفحة (952) من عدد الجريدة الرسمية رقم (1853) بتاريخ 26/5/1965 ما يلي:.
«فبالنسبة للسلطة التشريعية فإنها تملك حق التشريع في كل الموضوعات باستثناء المسائل التي أُنيط حق التشريع فيها لسلطةٍ أخرى بمقتضى نصٍ خاصٍ في الدستور. وقد أناطت المادة (120) من الدستور بالسلطة التنفيذية حق التشريع في مسائل عينتها بطريق الحصر».
وحيث إنه من المبادئ المستقرة في الفقه والقضاء، أنه لا يجوز التوسع في تفسير الاستثناء ولا القياس عليه، فإن ذلك ينطبق على المادة (120) من الدستور التي قرر المجلس العالي أنها تعطي لمجلس الوزراء، صلاحية استثنائية في التشريع ضمن حدودها.
ب. إن نص المادة (120) من الدستور الذي أعطى لمجلس الوزراء صلاحية حصرية في إصدار أنظمة مستقلة، قد جاءت صيغته على النحو التالي:.
«التقسيمات الإدارية في المملكة الأردنية الهاشمية وتشكيلات دوائر الحكومة ودرجاتها وأسماؤها ومنهاج إدارتها وكيفية تعيين الموظفين وعزلهم والإشراف عليهم وحدود صلاحياتهم واختصاصاتهم تعين بأنظمة يصدرها مجلس الوزراء بموافقة الملك».
وعلى هذا فإن النظام المستقبل الذي تصدره الحكومة يتعلق تحديداً بدوائر الحكومة ووظائفها وموظفيها. وهنا نجد أن مؤسسة الضمان الاجتماعي ليست مؤسسة حكومية ولا دائرة من دوائر الحكومة حتى تخضع للقواعد الواردة في النظام المستقبل الذي تصدره الحكومة. ومما يؤكد ذلك، الطابع الاستقلالي الذي أعطته المادة (8) من قانون الضمان للمؤسسة وفقاً لما أسلفنا. ويقطع بسلامة هذا الذي نؤكده ونقول به، ما قرر الديوان الخاص بتفسير القوانين، وما قررته الهيئة العامة لمحكمة التمييز.
ففي هذا الصدد، بيّن الديوان الخاص بتفسير القوانين في قراره التفسيري رقم (6) لسنة 2006 تاريخ 15/11/2006 المنشور على الصفحة رقم (4619) من عدد الجريدة الرسمية رقم (4794) بتاريخ 30/11/2006 ما يلي:.
«إن المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي مؤسسة تتمتع بالشخصية الاعتبارية وذات استقلال مالي وإداري، ولكنها ليست مؤسسة رسمية عامة، وليست لها شخصية اعتبارية، وليست بالتالي من المؤسسات الحكومية أو الرسمية العامة، وليس لأموالها علاقة بالخزينة العامة، وإنما هي مؤسسة ذات نفعٍ عام..».
أما الهيئة العامة لمحكمة التمييز فقد أكدت في قرارها رقم (3344/2005) تاريخ 5/7/2006 (بصفتها الحقوقية) ما يلي:.
«إن مؤسسة الضمان الاجتماعي وإن اعتبرت مؤسسة عامة رسمية إلا أنها ليست دائرة من دوائر الحكومة».
وأمام ما سبق، فإنه بالنظر إلى أن ولاية مجلس الوزراء في إصدار نظام الخدمة المدنية المعدّل المستند إلى المادة (120) من الدستور، هي ولايةٌ منحصرةٌ في شؤون دوائر الحكومة والموظفين فيها، وكان هذا الاختصاص التشريعي هو استثناء من الأصل العام الذي يجعل سلطة التشريع، المجسّدة لإرادة الشعب، هي صاحبة الولاية العامة في شؤون التشريعات، وحيث إن مؤسسة الضمان الاجتماعي ليست مؤسسة حكومية، ولا جزءاً من الدوائر أو المؤسسات الحكومية، فإن النظام المعدل لنظام الخدمة المدنية في اعتقادنا، لا يمكن أن يسري على موظفي الضمان بأي حالٍ من الأحوال.
6) وفي ضوء ما أسلفنا نقول إنه بالنظر إلى أن قانون مؤسسة الضمان الاجتماعي يدخل ضمن كلمة قانون الواردة في المادة (45/أ) من الدستور، فإن هذا القانون وحده، وبالتالي ما صدر بموجبه من أنظمة، هو الذي يحكم البنيان التنظيمي، والهيكل الإداري والوظيفي، والأوصاف الوظيفية، والمهام والمسؤوليات المتعلقة بمؤسسة الضمان الاجتماعي. وحيث إن نظام الخدمة المدنية المعدّل جاء بأحكامٍ تتعارض مع ما توجبه المادة (45/أ) من الدستور بشأن مؤسسة الضمان الاجتماعي وموظفيها، فإن هذا النظام من وجهة نظرنا، يصبح، في الحدود المتعلقة بالمؤسسة، مخالفاً للدستور.