وقفت نوال (54 عاماً)، تبكي بحرقة أمام المحكمة الشرعية في عمان، تسأل هنا وهناك عن الإجراءات، والأوراق المطلوبة، للمضي في رفع قضية طلب نفقة من أولادها الأربعة
قبل تسع سنوات حصلت نوال على الطلاق من زوجها مقابل التنازل عن حقوقها كاملة. لم تهتم وقتها برفع قضية نفقة، لأنها كانت تعيل أبناءها (أربعة ذكور وفتاة) من عملها في تنظيف البيوت والمدارس، كبرت الأم وكبر الأبناء، وذهب كل منهم في حال سبيله
ورغم أن نوال ربحت، قبل خمسة أعوام، قضية نفقة ضد طليقها، لابنتها، إلا أن الأب لم يلتزم يوما بدفع هذه النفقة التي لا تتجاوز سبعين دينارا شهريا
ابنة نوال، التي تعمل وتدرس في الوقت نفسه، لأن أمها مريضة ولم تعد تقوى على العمل، ترفض تقديم شكوى ضد والدها، وتقول: «هذا أبي»، أما إخوتها فلم ترهم منذ أكثر من أربع سنوات
من جهتها تعيش أم عماد كابوسا من الضغوط المالية والنفسية، يتكرر شهريا عندما تحاول تحصيل نفقة أبنائها الثلاثة (7 و11 و13 عاما)، والتي لا تتجاوز 160 دينارا. فمع حلول اليوم الأول من كل شهر، تستعد أم عماد للتوجه إلى دائرة التنفيذ في منطقة الجاردنز (وسط عمان)، للحصول على نفقة أبنائها. تنزل سلالم شقتها بخطوات هادئة ومرتبكة، خوفا من أن يسمع صاحب البيت وقع أقدامها فيسألها عن الإيجار المتراكم منذ أشهر، وما بين أجرة المسكن ومصاريف أبنائها تعيش دوامة من القلق لا تنتهي
ورغم أن النفقة المقدرة من قبل المحكمة الشرعية تعد بلا قيمة في هذه الأيام، إلا أنها بعيدة المنال في كثير من الأحيان، حيث ان قيمة النفقة ترتبط براتب الزوج أو ما يملكه، لكنها وبشكل ملتو ترتبط بـ(قدرته) على التهرب من إثبات وجود دخل شهري له أو حيازته لأملاك خاصة
عبء الإثبات
تشير الأرقام الصادرة عن دائرة قاضي القضاة إلى أن إجمالي دعاوى النفقة الزوجية لعامي (2019-2020) بلغ نحو 19 ألف قضية، ودعاوى النفقة المرفوعة ضد الأبناء للسنوات ذاتها تجاوزت 16 ألف قضية
يبين أشرف العمري، القاضي في دائرة قاضي القضاة، أن: «القاعدة العامة أن مقدار النفقة للأبناء والزوجات والأمهات يحدد بحسب حال المنفق يسراً أو عسراً، بشرط ألا يقل عن حد الكفاية الذي تحدده المحكمة بعد تعيينها خبراء لدراسة الحالة»
ويقول العمري: «إجراءات قضايا النفقة ليست طويلة في حال عدم وجود دفوع في الدعاوى، وهناك قضايا تفصل في جلسة أو جلستين، ولكن هناك قضايا قد تطول لأكثر من ذلك، ويمكن الاعتراض من قبل الطرفين على المبلغ المقدر الذي يحكم به القاضي»
ويضيف: «إذا شعرت المرأة أن القضية يمكن أن تطول أتاح لها القضاء بأن تطالب بنفقة معجلة كنوع من الحماية»، موضحا أن «مقدار الدخل عند الأردنيين هو أساس النفقة، وفي حال عدم كفاية المبلغ المقدر يمكن أن تطالب المرأة بإلزام الأقارب في حال إعسار المدعى عليه، ويكون ذلك دينا عليه في حال أيسر»
أما نادية الأسعد، المستشارة القانونية في «معهد تضامن» النسائي، فتبين أن: «التطبيقات العملية تثبت ضعف قيمة النفقات المحكوم بها، خصوصا أن إثبات قيمة دخل الرجل يقع على عاتق الزوجة أو الأم، وهو أمر يستحيل تقريبا التحقق منه خاصة إذا كان الرجل يعمل في القطاع الحر، فتلجأ صاحبة الدعوى في هذه الحالات إلى المحكمة للحصول على إقرار من الزوج يبين فيه مقدار دخله، وعادة ما يكون هذا الإقرار بعيداً كل البعد عن الدخل الحقيقي له، إذا كان يسعى إلى التهرب من الإنفاق على أولاده وزوجته، خاصة في حالة نشوب خلاف بينهما»
وأكدت الأسعد أن: «متوسط النفقة التي تحكم بها المحاكم الشرعية لا يتناسب والأوضاع الاقتصادية الحالية، فالنساء والأطفال، خصوصًا، يعانون خلال الرحلة الطويلة الممتدة من إقامة الدعوى الى إثبات دخل الزوج، وانتهاء بتحصيل النفقة، هذا من جهة، كما يعانون من ضعف المبالغ المحكوم بها، وعدم كفايتها لتلبية الاحتياجات المعيشية الأساسية، من مأكل وملبس وتعليم وصحة من جهة أخرى»
التهرب من الدفع
تعاني لارا من اعتراض زوجها المتكرر على مقدار النفقة التي أقرها القاضي، فبعد تقدير النفقة بمبلغ 140 دينارا تزوج أخرى، وقدم أوراقا تثبت حصوله على قرض سكني، لتنخفض نفقتها إلى خمسة وسبعين دينارا. وفي سياق التحايل نفسه على دفع النفقة، تشير الأسعد إلى حالة أخرى لمطلقة، قام طليقها بتسجيل التاكسي الذي يملكه باسم زوجته الثانية، حتى ينفي أمام المحكمة أن لديه أملاكا، وبالتالي يحكم لها بالحد الأدنى للنفقة
محمد أبو عزام، المحامي الشرعي، عاين حالات عديدة فضل فيها المحكوم عليهم الحبس على دفع النفقة «بالرغم من أن المبالغ تكون في كثير من الأحيان متواضعة». ويقول: «كثير من المسافرين المحكوم عليهم بدفع النفقة لا يدفعونها، وكذلك المعسرون، إذ لا تتم ملاحقتهم بشكل جدي. والقبض عليهم يكون عادة بالصدفة من خلال الدوريات المنتشرة على الطرقات». لكنه بين أنه: «يسمح للمرأة، في حال تهرب المحكوم عليه من دفع النفقة، بأن تلاحقه من خلال خطوات عديدة، كحبسه حتى يقوم بتسديد المبالغ المتراكمة عليه، أو وضعه على لائحة الممنوعين من السفر»
وفقا للقاضي العمري فإنه لا تتوفر إحصاءات عن أعداد المتهربين من دفع النفقة لدى دائرة التنفيذ القضائي، رغم تأكيد المحامين، الذين التقيناهم في هذا التقرير، على وجود الكثير من حالات المحكومين المتهربين
وتنظر الأسعد إلى إعادة النظر في النفقة التي يحكم بها للزوجة والأولاد والآباء والأمهات، باعتبارها ضرورة قصوى، «فمعدل النفقة المقررة للزوجة (81 ديناراً عام 2020) لا يكفي الحد الأدنى المنصوص عليه في المادة 64 من قانون الأحوال الشخصية، كون هذه النفقة تشمل القوت والكسوة والمسكن والعلاج»
ومن جهته يطالب أبو عزام بضرورة «إجراء تعديلات تسهل عملية إثبات دخل الزوج، وعدم تحميل الزوجة وحدها عبء ذلك، حيث ان النفقات المحكوم بها حاليا تُدخل العديد من النساء في دائرة الفقر على الرغم من الملاءة المالية لكثير من أزواجهن»
قانون الأحوال الشخصية رقم 15 لعام 2019 المادة 59
أ- نفقة كل إنسان في ماله إلا الزوجة ونفقتها على زوجها ولو كانت موسرة
ب- نفقة الزوجة تشمل الطعام والكسوة والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف وخدمة الزوجة التي يكون لأمثالها خدم
ج- يلزم الزوج بدفع النفقة إلى زوجته إذا امتنع عن الإنفاق عليها أو ثبت تقصيره
فيما تنص المادة 64 على أنه: «تفرض نفقة الزوجة بحسب حال الزوج يسراً أو عسراً، وتجوز زيادتها ونقصها تبعاً لحالته، على ألا تقل عن الحد الأدنى بقدر الضرورة من القوت والكسوة والسكن والتطبيب، وتلزم النفقة إما بتراضي الزوجين على قدر معين وإما بحكم القاضي، وتسقط نفقة المدة التي سبقت التراضي أو الطلب من القاضي