يقلّب الأب محمود نصار بحسرةٍ شديدة، تعبّر عنها الدموع، صوراً متعددة حفظها في هاتفه لطفله حمزة الذي صار ذكرى، بعدما استشهد بقصف إسرائيلي شرقي مدينة غزة.
يقف الأب عند إحدى الصور، التي التقطها لنجله في عيد الفطر 2020، ويقول بغصّة: "هذا العيد (في العام الحالي) لم أتمكن من التقاط صورة لحمزة بملابس العيد الجديدة، الله يرحمك يا بابا”.
يعود الأب الأربعيني بذاكرته إلى تاريخ 11 مايو/ أيار الجاري، ويقول: "أرسلت حمزة يومها، إلى السوق في حي الشجاعية، شرقي مدينة غزة، لشراء بعض الحاجات لإخوته الصغار، وهناك كانت تمر جنازة أحد الشهداء الذين ارتقوا خلال العدوان الإسرائيلي”.
ويشرح أن "حمزة وقف لمشاهدة الجنازة، وما هي إلا دقائق حتى قصفت مقاتلات إسرائيلية الجنازة ودراجة نارية كانت تسير خلفها”.
أصابت الطفل شظايا في المناطق العلوية من جسده، ونقل إلى المستشفى ليمكث هناك إلى اليوم التالي الذي أعلن فيه استشهاده، ليعود بكفنه إلى حضن والدته الكفيفة، في ثاني أيام العدوان الإسرائيلي على غزة بتاريخ 12 مايو/ أيار الجاري.
ومنذ 13 أبريل/ نيسان الماضي، تفجرت الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، جراء اعتداءات "وحشية” ترتكبها الشرطة الإسرائيلية ومستوطنون في مدينة القدس المحتلة، وخاصة المسجد الأقصى ومحيطه وحي الشيخ جراح، إثر مساع إسرائيلية لإخلاء 12 منزلاً من عائلات فلسطينية وتسليمها لمستوطنين.
روح البيت
يقول والد الطفل بصوتٍ لا يخفي القهر بداخله: "حمزة كان روحي، كان العين التي أرى بها، كان هو اليد التي أمسك كل شيء بها، لستُ قادراً على تخيّل الحياة، وكيف تمر، من دونه”.
ويضيف: "غياب حمزة عن البيت غيّر كل شيء، وحتى اللحظة لا أستطيع رفع صورته أمامي، لن أتمكن من ذلك. طيفه لا يغيب من دون صورة، فكيف لو كانت الصورة؟ سأظل أبكيه كل لحظة”.
"كان حمزة يحدث والديه وإخوته دائماً عن طموحه ورغبته في الحياة. كان يريد أن يصبح طبيباً، ليعالج المرضى، كان هذا حلمه وكان متفوقاً بالدراسة”، يقول والده.
ويكمل الأب محمود كلامه بينما يمسك هاتفه وهو يتأمل صور الشهيد: "ذهب حمزة وذهب حلمه. قتلته إسرائيل من دون رحمة، لم يكن هناك هدف عسكري بالمنطقة، كانت جنازة شهيد فقط”.
"كان حمزة رجلاً على الرغم من عمره، تحمّل الظروف الصعبة وأعان والده على أعباء الحياة، كان عموداً للبيت وسندا للجميع، كان حبيباً لأمه الكفيفة، التي لا تزال حتى هذه اللحظة مصدومةً من رحيله”، يردف الأب.
لا ينفك أشقاء حمزة الصغار، عن السؤال عنه دائماً. يقول الأب: "أنا أصبّرهم بالقول لهم إنه سيعود مجدداً من مشواره القصير. تخرج تلك الكلمات مني بإحساس قهرٍ شديد، فحمزة لن يعود، أنا أعرف الحقيقة”.
ويضيف: "كان معتاداً على ملاطفتهم وملاعبتهم. من الصعب أن تمضي الأيام عليهم من دونه، فهو كان مشاركاً لهم في كل تفاصيل الحياة، في النهار والليل والمدرسة.. وكل شيء”.
عيدٌ بلا حمزة
مرّ عيد الفطر على العائلة من دون حمزة، بكاء في كل مكان وانهياراً متكرراً لوالدته التي "ما زالت حتى اليوم تغيب عن الوعي كلما طل طيف حمزة أمامها”، يقول الأب.
ويسرد: "قبل أيام من استشهاده، خرجت أنا وحمزة وأخوه الأصغر إلى السوق واشترينا ملابس العيد والحلوى وبعض المستلزمات المنزلية، كنا نستعد للعيد كما كل مرة، لكنّ إسرائيل أرادت هذه المرة مختلفة”.
أنهى الأب محمود برفقة أبنائه جولة التسوق، وفي طريق العودة، كان حمزة يريد ساعةً لليد جديدةً أعجبته، وقال إنه يتمنى شرائها منذ شهور.
أراد حمزة شراء الساعة بحزم، يقول الأب: "اقتنعت بشرائها له بعد إصرار، والحمد لله أن ذلك تم. لو لم يتم لتحسرت الآن، لتحسرت جداً على أن حمزة رحل وكان يتمناها”.
يتحدث الأب: "العيد مرّ بأيامه الثلاثة علينا صعباً جداً، والقصف متواصل. الحمد لله على كل شيء، لكن حمزة لا يُعَوَّض، فقده صعب للغاية”.
عائلة شهداء
لم يكن الشهيد الطفل حمزة، هو الوحيد الذي ودعه الأب محمود من عائلته، فهو ينتمي إلى عائلة قدمت عدداً من الشهداء، على مدار سنوات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
يقول الأب: "في عام 2001 ودعت شقيقي محمد نصار، الذي استشهد في غارة جوية شنتها طائرات حربية إسرائيلية على منزله. وبعدها بنحو عامين ودعت والدي شهيداً إثر قصف إسرائيلي استهدفه أيضاً”.
ويشير إلى أن "أحد أخوال حمزة، ويدعى محمد رشاد الخولي، استشهد خلال العدوان الإسرائيلي على غزة جراء قصف جوي”.
ويختم الأب قائلاً: "كل من ودعته عزيز، لكنّ حمزة هو الأعز، فقد الابن صعب، فكيف لو كان ابناً وسنداً. نسأل الله الصبر والعوض”.
وانتشرت على منصات التواصل الاجتماعي صورةً للطفل الشهيد حمزة، مبتسماً داخل كفنه الأبيض، فحظيت بانتشارٍ واسع وعلّق عليها بعبارات الرحمة والحزن عشرات النشطاء.
وأسفر العدوان الإسرائيلي حتى فجر الأربعاء عن سقوط 227 شهيداً، بينهم 64 طفلاً و38 سيدة، إضافة إلى أكثر من 1620 جريحاً، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع.