دريد لحّام: كنتُ وما زلتُ معارضاً .. فإلى أين سأذهب؟
في مكتبه بحي "أبو رمانة" الدمشقي، كان اللقاء مع الفنان دريد لحام حميمياً وودوداً، تخللته دعابات الفنان التي كان يلقيها بين الحين والآخر، كيف لا ونحن في حضرة "غوار الطوشة" الشخصية التي توازي لدى الجمهور العربي شخصية "شارلي شابلن" ولكن بشكلها الناطق .
بسيط وعميق، أجوبته مقتضبة ولكن شافية، متواضع يأسرك منذ اللحظة الأولى بكلماته عندما يخاطبك بـ" يا قلبي .. يا روحي" لتشعر وكأنك بحضرة أب محبّ .
يقول "سورية أمي الثانية بعد أمي الأولى التي حملتني في رحمها تسعة أشهر" ويضيف مستعيداً جملة شهيرة في مسرحيته الخالدة "كاسك يا وطن": : لم ولن أغادرها، وإن غادرتها فهي لن تغادرني .
بدأ حياته مدرساً في مدارس دمشق وجامعتها لمادة الفيزياء والكيمياء، وبالتالي لم يكن يتوقع يوماً أن يصبح ما هو عليه اليوم، ولكن رغم كل ما وصل إليه من مجد لا ينازعه عليه إلا قلة في العالم العربي، ورغم سنواته الـ83 ما زال يعتبر نفسه في بداية طريق الفنّ، يتعلم ويفكر بالخطوة الأولى والثانية والثالثة ..
"آسيا" التقت الفنان دريد لحام، وكان الحوار التالي:
*ما زلت في البداية
1 - بدأت التمثيل في عام 1960، عملت في المسرح والتلفزيون والسينما، كنت الممثل والمخرج والكاتب والمغنّي، هل ثمة ما لم تفعله أو لم تقله بعد، وهل كنت تتوقع أن تصل إلى ما وصلت إليه ؟.
"لسا ما قلت شي" يقولها ضاحكاً، ويستطرد : رغم 57 عاماً في المهنة، فأنا ما زلت أعتبر بأني لم أقل شيئاً بعد، و مازلت في البداية، لأنني عندما أقول إنني وصلت أكون انتهيت، يجب أن أفكر بأنني مازلت في البداية ليكون هناك حافز لخطوة أولى وثانية وثالثة.
عندما بدأت العمل سنة 1960 كنت مدرساً في الجامعة و في المدارس الثانوية، دعاني الدكتور "صلاح قباني" مدير التلفزيون آنذاك لتجربة أداء على شاشة التلفزيون، ولم أكن أعرف ماذا بوسعي أن أفعل، ولاسيما أني آتٍ من حقل علمي هو الفيزياء والكيمياء، فقلت سأجرب، وجرّبت، ولكن شعرت بأني أدخل إلى نفق أرى أوله ولا أرى آخره، وكان لدي هاجس دائم : هل سأنجح أم لا...
2 - إذا عدنا بالذاكرة إلى زمن "غوار" والأعمال الخالدة لدريد لحام على صعيد المسرح السياسي (غربة، وكاسك ياوطن، وضيعة تشرين..) أو السينما ( التقرير، والحدود ..) لأي من هذه الأعمال تحنّ أكثر ؟.
بالتأكيد أحنّ إلى المسرح، وأي فنان إذا ما سألته عن المنابر التي يفضلها، فإنه سيختار المسرح مباشرة، لأن هناك علاقة حميمة مع الجمهور، أنت ترى عيون الناس، وتسمع نبضات قلوبهم، تصفيقهم وضحكاتهم، وحتى غضبهم في بعض الأحيان، أما في التلفزيون والسينما فأنت أمام عين زجاجية ليس فيها روح أو حياة.
3 - اليوم لا نرى مسرحاً سياسياً بالشكل الذي عرفناه سابقاً، أو بالسوية السابقة، هل ما كان يقال سابقاً لا يمكن أن يقال حالياً ، أم أن هناك أسباباً أخرى ؟.
تغيرت الظروف وتغيرت الاهتمامات، ولم يعد المسرح السياسي أو ما سيقوله في دائرة اهتمام المواطن، اليوم الهم هو همّ الأمن والأمان في سورية التي تكالبت عليها كل قوى الشر في العالم.
المسرح ارتبط دائماً ارتباطاً وثيقاً بأشخاص، حين يأتي شخص ما متحمّس للمسرح ينتعش المسرح، وإذا غاب هذا الشخص غاب المسرح معه، وهكذا ريثما يأتي آخر ، مثلاً لدينا مثال ساطع وهو مسرح الرحابنة الذي ارتبط بالأخوين الرحباني ، وعندما غابوا غاب المسرح، فمتى يأتي أحد آخر ليملأ هذا الفراغ.. العلم عند الله .كذلك الأمر في سورية.
4- هل تعتقد أن سورية بحاجة اليوم لشخص من أمثال الماغوط، ولو كان بيننا اليوم، هل سيكون قادراً على السخرية في مثل هذه الظروف من الأزمة السورية؟.
بالتأكيد نحن بحاجة لأشخاص مثل الماغوط، وكان يمكن أن يقدم ما قدمه سابقاً، وبما يناسب ما نمرّ به ، فالماغوط لم يكن ينتظر من يعطيه حريته بل هو خطف حريته بنفسه، كما أن مقالاته الوطنية لم تطلب إذناً من أحد.
5- هل تعمل على مشروع ما يقارب الأزمة السورية في الدراما أو المسرح أو السينما؟.
عندي تعبير أقوله دائماً، ومفاده أن مستقبلي بات ورائي وليس أمامي، لذلك خياراتي صعبة، لاأستطيع قبول أي عمل لمجرد الظهور على الشاشة، ولاسيما في رمضان.
قرأت العديد من الأعمال ولم أر نفسي فيها، أو أنها ستكون بمستوى أعمالي السابقة، ولذلك أفضل الجلوس جانباً حتى أجد ما يرضيني ويشكل إضافة لي ولمسيرتي .
6- هناك قول شهير للمخرج الفرنسي "جان رينوار" مفاده أن أفضل الأفلام في أي بلد هي تلك التي تصنع في الأوقات العصيبة، هل ينطبق ذلك على سورية؟.
هذا القول لا ينطبق علينا كثيراً،على الأقل حتى الآن، فالأفلام التي قدمت خلال الأزمة معظمها أخذت الطابع التوثيقي، ربما المرحلة تتطلب شكلاً يشبه التوثيق من أجل أن تعرف الأجيال القادمة ما حدث بعيداً عن التزوير الحاصل اليوم ، أما لماذا حدث ذلك، فربما تشرحها أعمال ما بعد الأزمة .
7- ما النص الذي يطمح دريد لحام أن يعمل فيه اليوم ؟.
أنا ميّال للنصوص الاجتماعية، فهي الأقرب إلى نفسي، وآخر عمل لي "سنعود بعد قليل" هو أهم أعمالي، والأقرب إلى قلبي، لأنه لامس الأزمة بشكل شفاف وإنساني دون مواعظ مباشرة، ولم يكن هذا العمل "فوتوغراف" مثل الأعمال الأخرى.
*أنا مع وطني حتى لو كان على خطأ
8- لننتقل إلى موقفك مما سمّي "الربيع العربي" : البعض يرى أن موقفك لم يكن مفاجئاً، لأن ما كنت تقدمه في المسرح السياسي كان عبارة عن "تنفيس" يهدف إلى تخفيف الاحتقان، وتلميع صورة السلطة التي سمحت بهذه الأعمال للإيحاء بوجود هامش حرية في ظل غيابها بشكلها الحقيقي .. بماذا تردّ؟.
سمعت هذا الكلام كثيراً وأجبت عليه، عندما تقول تنفيس فأنت تتهم الجمهور وتعتبر الناس مجموعة بالونات يمكن تنفيسها، هذا اتهام ظالم للجمهور أولاً، ولنا كفنانين ثانياً، فعندما بدأنا بالعمل وعرض هذه الأعمال الوطنية أوصيت أحد أصدقائي أن ينتبه على زوجتي وأولادي، إذا حصل لي أي مكروه، وكنت بالفعل أتعرض للتهديد، كنت حرّاً وما زلت، والإنسان الحرّ يخطف حريته، ولا تأتيه كهدية إلى باب البيت .
9- بالمقابل، البعض الآخر يرى أنك لطالما كنت أقرب للمعارضة في أعمالك المسرحية والسينمائية، وتاريخك الفني عبارة عن نقد دائم ورفض للظلم والفساد، فلماذا انحزت إلى النظام؟.
أنا معارض منذ أن بدأت في العمل بالتلفزيون، وكنت ضد الظلم والفساد وكم الأفواه، ومازلت معارضاً، رغم ذلك كنت دائماً أقول أنه يجب التفريق بين السلطة والنظام، وقلت منذ بداية الأزمة: طالبوا بإسقاط السلطة ولا تطالبوا بإسقاط النظام ، فبديل النظام هو الفوضى، وهو ما ظهر فيما بعد. نحن صرخنا وهدّدنا في بداية الحراك، ولولا حماية العقول التي تسمع الرأي الآخر لكنا في السجن الآن، ومع ذلك غامرنا حبّاً بسورية، ولكن بما أنني معارض وأريد التغيير، فهل يجب أن أذهب، وإلى أين سأذهب؟.
10- ولكن يؤخذ عليك أنك خلال الأزمة لم تتحدث عن أخطاء "السلطة" وكنت ضدّ الطرف الآخر فقط؟.
هذا غير صحيح، أهم ما قلناه أول وأثناء الحرب أن الحرية والديمقراطية والكرامة وكل العناوين العريضة تُختصر بكلمة "العدالة الاجتماعية" ودائماً أقول على المنابر أن غياب العدالة الاجتماعية سيؤدي إلى الانهيار. ولكن من يتهمونني كيف يفسرون موقفهم اليوم، أنا أفهم أن ينشقّ جندي بسيط لأن راتبه قليل وأغروه بالمال، ولكن لا أفهم كيف أن عميداً أو مسؤولاً هو في صلب النظام منذ 30 سنة ولم نسمع صوته طيلة هذه الفترة، و بلحظة انقلب 180 درجة! ألا يعني هذا أن هناك مغريات دفعته للتحوّل؟!. بعض الفنانين الذين انقلبوا كانوا الأكثر دلالاً من قبل السلطة، وكان يمكن أن يحدثوا تأثيراً ما حينها، فلماذا بهذه اللحظة فقط انقلبوا 180 درجة؟ إذاً هناك "غاية ما في نفس يعقوب".
11- هناك من يقول أن ثمة تواطؤاً ضمنيّاً قديماً بين السلطة والإسلاميين، مفاده أن خذوا أنتم المجتمع واتركوا السياسة والاقتصاد لنا، وبالتالي تغلغل هؤلاء في المجتمع بلا رقابة، وسيطروا على العقول، فكانت النتيجة ما نعانيه اليوم .. مارأيك؟.
لا أدّعي الفهم بالسياسة كثيراً، ولا في التحليل بهذا الموضوع، ولكن أعرف أنه حين يسألني أحد ما في أي بلد في العالم من أين أنت، ومع من أنت، أجيب دائماً بأن سورية أمي الثانية، ورحم أمي التي حملتني لتسعة أشهر هو أمي الأولى، سورية هي أمي، وسأبقى مع أمي (وطني) ولو كان على خطأ.
12- في العديد من أعمالك المسرحية كان هناك ما يشبه النبوءات لما يحدث الآن، في مسرحية "كاسك يا وطن" تقول "مشكلتنا مو مع الله .. مشكلتنا مع اللي بيعتبر نفسو بعد الله".. وهذه الجملة تنطبق على المتأسلمين الذين يقتلون اليوم باسم الله، هل ترى أن وظيفة الفن أن يتنبأ بالمستقبل ويستشرف ما سيحصل ؟.
الفن ليس نبياً أو متنبئاً، لكن نظرة صادقة للحظة التي تعيشها تدفع إلى أن تعلم مالذي سيحصل في اللحظة القادمة، الأمر يشبه سكة القطار الذي ينطلق من محطة ويصل إلى محطة ثانية معروفة ، هذا مرتبط بالنظرة الصادقة للحظة فقط.
13 - نتيجة موقفك من "الثورات" وتحديداً في سورية، تعرضت لنقد و تجريح وتهديد بالقتل، هل شعرت بالخوف أو فكرت بالسفر؟.
إطلاقا، ولا للحظة، لم تهمّني، ولم تهزّ كياني كل تلك التهديدات، ولم ألتفت إلى ذلك التجريح والكلام ، فأنا غير قادر على ترك سوريا لأنها لن تتركني، ولو فكرت بمغادرة وطني هو لايغادرني لأنه يعيش في داخلي.
ما أكثر ما أثر فيك مما قيل تجريحاً : الهجوم على شخصك وطائفتك، أم اتهامك بالتبعية للنظام؟.
لاشيء إطلاقاً، لأنني مؤمن بالله، وعندما خلقت كنت مثلك ومثل كل من ينتقدني، مثل أي إنسان أحمل كل صفاتي. من لحظة تكويني وضع الله كل المواصفات التي سأكون عليها، وضمناً طائفتي التي لم أخترها بل كانت خياراً إلهيّاً، وبالتالي أي تدخل في هذا الأمر هو كفر بإرادة الله . هنا أريد أن أسأل أي مسلم أو مسيحي أنه حين بلغ عمره 18 عاماً، هل قرأ ثم اختار دينه، أم أنه جاء من رحم أمه على دينه الحالي ؟ لكن هناك عقولاً مصادرة، ومليارات الدولارات دفعت حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تكفير وجنون .
هل عرض على دريد لحام إغراءات مادية أو غيرها لتغيير موقفه؟
نعم كثيراً، قالوا تعال وستكون على الرحب والسعة وستحصل على الجنسية، لكن موقفي سوري بحت، ولا يمكن أن أترك بلدي.
*الدراما السورية بخير
14- انتشرت في السنوات الأخيرة الأعمال العربية المشتركة، هل تنظر إليها إيجاباً أم سلباً، وهل أثرت على الدراما السورية؟.
مسألة الأعمال المشتركة ليست جديدة وليست وليدة الأزمة، فكل أفلامنا السينمائية السابقة كانت مع ممثلين لبنانين أو مصريين، وحتى أتراك، واليوم أعتقد أن مشاركة فنانين سوريين بأعمال عربية يعطي زخماً للطرفين، ليس الأمر سلبياً، بل يعطي وهجاً جديداً للدراميين السوريين.
15- إذاً .. هل توافق على التمثيل بهذا النوع من الأعمال؟.
إذا كان العمل بمستوى "سنعود بعد قليل" أوافق، بشرط ألا يكون العمل مجرد تجميع لأسماء لامعة، لأنه حينها سيفشل ويسقط .
16- ما تقييمك للدراما السورية خلال الحرب، هناك من يقول بأنها تراجعت وانحدرت بشدة ؟.
نحن جميعاً نعرف الظروف القاسية التي تمرّ فيها البلاد، ونعيشها، ومع ذلك الدراما مازالت تنتج، إذاً الدراما بخير، وبالنسبة لي طالما هناك فنانون يعملون في هذه الظروف القاسية وبأي مستوى، فهذا يعني أن الدراما بخير، ثم أنه قبل الحرب كانت هناك دراما ولم تكن كلها جيدة، بل هناك الجيد والمتوسط والرديء، حتى في أمريكا عندما تريد شراء فيلم بسوية عالية فإنهم يشترطون عليك شراء قائمة أفلام سيئة، وفي كل شيئ بالحياة هناك الجيد والسيئ ، والله عندما يخلق أي شي يكون هناك الجيد والمتوسط والسيئ .
17- هل أنت من أنصار معاقبة الفنانين السوريين الذين ذهبوا بعيداً في مواقفهم المناهضة للسلطة ؟.
لا، حتى أستحق الحرية يجب أن أفهم وأحترم الرأي الآخر أو أسمعه على الأقل، قد لا أكون معه ولكن أسمعه، سأقول لك أمراً في هذا السياق، حين كنت مدعوّاً إلى القاهرة في مهرجان تلفزيوني منذ سنتين، هاتفني (الفنان) جمال سليمان وطلب رؤيتي فوافقت، وبالفعل زارني وجلسنا لساعتين، تحدثنا بكل شي إلا بالسياسة .
18- إذاً، هل يمكن أن نراك إلى جانب جمال سليمان أو غيره من الممثلين المعارضين في عمل واحد ؟.
نعم، وفي مسلسل "سنعود بعد قليل" كانت من جملة الممثلين المشاركين كندة علوش، أكرر أنا أحترم الرأي الآخر لدرجة كبيرة، وأسمعه حتى لو لم أكن معه.
19- هل قابلت الرئيس الأسد خلال الأزمة ؟.
نعم، في بدايتها، حين استقبل الرئيس مجموعة من الفنانين وكنت بينهم .
عمّ تحدثتم ؟
كان حديثاً حول الأزمة، سمع آراء الجميع، وأنا من جانبي تحدثت عن أن الفساد هو البلاء الأول في سورية، ولا يجب السماح له بأن يستشري، فالفساد هو أصل البلاء. ثم أنني دائماً ما أتحدث عن غياب العدالة الاجتماعية، باعتباره السبب في كل مصائبنا. وفي ندوة حوارية بنادي "صحارى" في دمشق في بداية الأزمة كنت واضحاً في هذا الأمر، وضربت مثالاً بسيطاً حول ذلك فقلت: حين تجد في بيت ما، في شارع ما أن هناك خزانة ألبسة فيها فستان بألف دولار، وفي نفس الشارع هناك شاب يغطس في حاوية قمامة بحثاً عما يبيعه ليؤمن ثمناً للطعام، مثل هذا المجتمع الذي ينتمي إليه هذا الشارع، هو مجتمع آيل للزوال بسبب غياب العدالة الاجتماعية.
20- هل لك أن تستشرف لنا أخيراً إلى أين تتجه الأمور في سورية؟ هل يلوح أمل في الأفق ؟.
لا أستطيع هنا سوى أن أستعير كلمة المرحوم سعد الله ونوس "نحن محكومون بالأمل" وسأضيف بأن الأمل هو الاستمتاع سلفاً بالمستقبل.