في العصر الحديث هناك الكثير من الخيارات التي نعتبرها أمراً مسلَّماً به، مفترضين أنها دائماً متاحة، وربما لا يرد بخاطرنا الجهد الكبير الذي كان ورائها لتتوفر لنا بهذه السهولة.
الألوان أحد هذه الخيارات، وألوان الملابس تحديداً، لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة في توفيرها في الماضي، فلكي تكون الملابس أكثر جاذبية اقتضى الأمر كثيراً من البحث والتجربة، وكلَّفَ ذلك الإنسان في العصور السابقة كثيراً من الجَهد والمال، إلى جانب تكلفة استخراج الصبغة نفسها.
كانت التجربة تستدعي أحياناً استخدام أنواعاً معيَّنة من النسيج، ولهذا كانت ألوان الملابس ولعصورٍ طويلة تُشيرُ للطَّبقةِ الاجتماعية التي ينتمي لها صاحبها.
ولعلّ السبب لم يكمن في التكلفة وحدها فقد حرصت الطبقة الراقية على وضوح هذا الفرق لفترةٍ طويلة، وهذه هي قصة بعض الألوان وكيف صُنعت:
1- الأرجواني.. الإمبراطوري
في العصر الروماني تم اكتشاف اللون الأرجواني أو الأرجواني الملكي، والذي عُرف أيضا بالأرجواني الإمبراطوري، حيث كان إعداد رطل واحد من هذه الصبغة يحتاج الكثير من الجهد والوقت والمال، مع استخدام آلاف الكائنات الرخوية البحرية.
فيما كان ثمن الصبغة يفوق وزنها من الذهب، وبالتالي لم يستطع تحمُّل التكلفة الباهظة لصبغ الملابس بهذا اللون سوى أثرياء المجتمع.
الغريب أن القانون في انجلترا كان يمنع أي شخص من ارتداء هذا اللون باستثناء أفراد العائلة الملكيَّة والمقربين منها.
2- الأزرق.. الملكي
حدث شيء مشابه للَّون الذي سُمِّي بالأزرق الملكي، فقد تم استخراجه من حلزون البحر، وكانت صفة "ملكي" تشير لاستخدامه الذي اقتصر تقريباً على الملوك فقط.
3- الأزرق العادي
بعض الصبغات كالصبغة الزرقاء التي تستخدم حالياً في صبغ القماش الجينز كانت في الماضي موضوعاً للرفاهية، وحتى عام 1900 كان المصدر الوحيد للـ"أزرق الطبيعي" هو النباتات المغمورة لفترةٍ طويلة في محلول قلوي (أحياناً كان البول يستخدم لهذا الغرض).
وخلال القرن العشرين بدأ الأزرق الصناعي يحلّ محلَ الأزرق الطبيعي، وهكذا أصبح بوسع الجميع ارتداء اللون الأزرق.
4- الأحمر
المادة الرئيسية للصبغة الحمراء كانت تستخرج من الحشرات التي تعيش في مناطق البحر المتوسط، ويُقال إن رطلا واحداً من الصبغة كان يتطلب استخدام 70.000 حشرة، وكان إنتاج صبغة لامعة أو داكنة يزيد التكلفة.
5- الأصفر ودرجاته.. ألوان العامَّة
كانت الألوان التي يمكن الحصول عليها بسهولة بين الأسر العادية هي الأصفر والبنِّي المائل للصفرة، حيث كان يتم استخراج هذه الألوان من الزهور والنباتات وخاصة الزعفران، بطريقةٍ بسيطة ومباشرة.
وهذا يفسِّر سبب شيوع هذه الدرجات في ألوان ملابس العامة في اللوحات التصويرية القديمة.
وكان الأخضر أيضاً من الألوان التي أمكن استخراجها بسهولة ودون الكثير من التكلفة من لحاء الأشجار.
كيف أمكننا ارتداء ألوان الملوك؟
اللون الأرجواني الذي نستخدمه حالياً جاء اكتشافة عبر تجربة لكيميائي شاب هو ويليام بيركن في القرن التاسع عشر، حيث كانت تجربته في الأساس لمحاولة اكتشاف علاج للملاريا، من لحاء شجرة الكينو.
فيما باءت تجاربه في استخراج مضادات للملاريا بالفشل، لكنها خلَّفت عام 1856 إنتاج أول صبغة صناعية أرجوانية، بنفسجية، وقفزت إلى عالم الموضة سريعًا حين ارتدت الملكة فيكتوريا معطفاً أرجوانياً في عام 1862.
ولم تكن هذه اللحظة فقط هي لحظة اكتشاف طريقة أخرى لاستخراج الصبغة الأرجوانية، إذ مكنت لحظة الانتقال إلى الصناعة الكيميائية من استخراج العديد من الصبغات التي أطلقت العنان للإبداع وأحدثت ثورة في عالم الأزياء.
الجدير بالذكر أن العديد من شركات الأدوية بدأت في الأصل كشركات لإنتاج الصبغات، وهذا يعني أن الثورة التي حدثت في عالم الألوان كانت أساسية أيضاً في ظهور مجال الأدوية الحديثة.
والآن مرّ قرن على توصُّلُنا للصبغة الكيميائية التي أتاحت لنا الاختيار بين ألوان الملابس دون أيَّة قيود، وقد دفن هذا الاكتشاف الرسائل التي كانت تنقلها ألوان الملابس عن حالتنا الاجتماعية وقوة مراكزنا، وثروتنا.