ألقى جلالة الملك عبدالله الثاني، اليوم الثلاثاء، كلمة الأردن في الجلسة العامة لاجتماعات الدورة الحادية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفيما يلي النص الكامل للكلمة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، شكرا فخامة الرئيس.
اسمحوا لي أن أعبر عن عميق التقدير لسعادة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على تفانيه في خدمة قضايا السلام والوئام العالمي. ونقدر عالياً تعاونه معنا خلال السنوات العشر الماضية.
سعادة الأمين العام، أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، بينما أقف اليوم أمامكم، توشك الانتخابات النيابية في الأردن على الانتهاء، لتمثل خطوة أخرى في مسارنا نحو التغيير والتطور للأفضل، وهو مسار التزمنا به بكل إصرار بالرغم من الاضطرابات الإقليمية وعبء اللاجئين. وتمثل الانتخابات إنجازا يعود معظم الفضل في تحقيقه لمواطنينا – والشباب منهم تحديدا – الذين تمسكوا بقيم الأردن المتمثلة بالوحدة والقوة والروح التواقة للتقدم، رغم كل الصعوبات. إن الإنجاز في ظل هذه الظروف تحديدا هو الذي يجعل من هذه الانتخابات انتصارا حقيقيا.
السيدات والسادة، بينما نجتمع هنا اليوم، تعمل قوى شريرة في منطقتنا وخارجها، وهدفها إضعاف القيم التي تجمع البشرية. وأنا أشير هنا بالطبع إلى الإرهابيين المتطرفين الذين يتصدرون عناوين الأخبار، والساعين إلى السيطرة على العالم. إنهم يريدون أن يمحوا إنجازاتنا وإنجازات أجدادنا، وأن يدمروا الحضارة الإنسانية ويدفعوا بنا إلى عصور الظلام.
والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، ونحن نواجه هذا التحدي ونخوض معركة هذا العصر هو: ما طبيعة الإرث الذي سنتركه وراءنا؟ هل سنورث أطفالنا عالما يسيطر عليه الخوف والانقسام، فيصبحون مسكونين بهاجس الأمن إن ركبوا طائرة أو حضروا حفلا أو مباراة كرة قدم أو تجولوا في سوق تجاري؟ والسؤال الأكثر أهمية: هل نحن نقوم حقاً بما يجب علينا فعله لهزيمة هذه القوى الشريرة، لنترك لأولادنا عالما يسود فيه التآخي الإنساني والأمل بدلا من الخوف والشكوك، ولتحقق هذه الأجيال كامل إمكاناتها وطاقاتها، وتسهم في الإنجازات البشرية المتراكمة على مر العصور؟ للأسف، وبعكس ما أتمناه، فإن الجواب على هذا السؤال هو لا، إذ كيف يمكننا أن نكون فاعلين في هذه المعركة، ونحن لم نحدد لغاية الآن من هو عدونا بوضوح، ولا نعرف إلى جانب من نقاتل وضد من نقاتل؟ اليوم، وبعد سنوات من خوض حرب عالمية ضد الإرهاب، أجد نفسي مصدوما من الفهم المغلوط لطبيعة الإسلام لدى العديد من المسؤولين الغربيين والمعاهد الفكرية وقادة الإعلام وصنّاع السياسات، حيث أجد نفسي مضطرا لتوضيح ما هو واضح المرة تلو الأخرى.
إن الأفكار المغلوطة عن الإسلام والمسلمين تصب في خدمة أجندة الإرهابيين الساعية لإشعال فتيل حرب عالمية، وذلك من خلال تعميق وتغذية الانقسام والاستقطاب في المجتمعات، بين الشرق والغرب، فتقوم كل مجموعة بوصم الأخرى، وتنغمس أكثر فأكثر في سوء الظن بالآخر ورفضه.
إن للمسلمين، الذين يشكلون ربع سكان العالم ويتواجدون كمواطنين في كل دوله، دور محوري في صياغة مستقبل عالمنا. فكل مسلم ومسلمة يسهم في رفد العالم بتراث غني من المسؤولية المدنية، والعدالة والعطاء، والحياة الأسرية، والإيمان بالله. لذلك، فعندما يتم إقصاء المسلمين وحرمانهم من المساهمة وأداء دورهم بسبب التحيّز ضدهم أو الجهل بحقيقة الإسلام، أو عندما يسعى الخوارج لتضليل بعض المسلمين أو تشويه ديننا عبر تعاليم خاطئة، فإن الخطر سيحدق بمستقبل مجتمعاتنا كلها.
أصدقائي، إن الخوارج عندما يقتلون أو ينهبون أو يستغلون الأطفال أو يحرمون النساء من حقوقهن التي شرعها الله، فإنهم يسيئون للإسلام. وعندما يضطهد الخوارج الأقليات وينكرون الحريات الدينية، فإنهم يسيئون للإسلام.
الإسلام يعلمنا أن البشر متساوون في الكرامة، ولا تمييز بين الأمم أو الأقاليم أو الأعراق. ويرفض الإسلام الإكراه في الدين، ولكل مواطن الحق في أن تحفظ الدولة حياته وأسرته وممتلكاته وعرضه وحريته الدينية.
كما أن المسلمين يؤمنون بالكتب المقدسة، التي أنزلها الله تبارك وتعالى ومنها الإنجيل والتوراة، إذ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم "قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ". (سورة آل عمران، الآية 84) وفي الواقع، فإن الرسول الأكثر ذكرا في القرآن الكريم هو موسى ((عليه السلام))، إذ ورد اسمه 136 مرة. أما يسوع "المسيح" ((عليه السلام))، فقد ذكر 25 مرة، وأمه مريم، والتي يصفها الإسلام أنها "خير من خلق الله من النساء" مذكورة 35 مرة، كما في القرآن الكريم سورة كاملة باسم مريم.
إن الخوارج يتعمدون إخفاء هذه الحقائق عن الإسلام ليفرقوا بين المسلمين وغير المسلمين، وهو أمر لا يمكن أن نسمح به.
السيدات والسادة، لن نتمكن من مواجهة عدونا المشترك ومن رؤية طبيعة خصمنا بوضوح، إلا عندما نخوض معا هذه المعركة، جميعا من سائر الأديان، ممن يؤمنون بأن الكرامة والحرية والرفاه حقوق طبيعية لكل إنسان منذ ولادته.
وأود أن أؤكد هنا، وبكل وضوح، أن الجماعات المتطرفة خارجة عن الإسلام ولذلك ندعوهم بالخوارج. فهؤلاء يتخذون من العالم المتحضر والناس جميعا، مدنيين أو عسكريين، أعداء، ويرون في ذلك هدفا مشروعا. وهم يحاولون أن يزرعوا في كل دولة من دول العالم "خلافة" مزعومة ليمتد نفوذهم، وهم يتمددون بسرعة وعلى نطاق واسع من خلال مهارتهم في استغلال التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام الاجتماعي.
ولمواجهة هذا العدو غير التقليدي، فإننا بحاجة إلى وسائل غير تقليدية، عبر تبني نمط تفكير جديد، وشراكات وأساليب جديدة.
إن هذه المعركة بالنسبة للمسلمين، هي أولا وقبل كل شيء، معركة من أجل مستقبلنا، وكل مكوّن من مكوّنات مجتمعنا ينتظره دور مهم، ليس فقط بالنسبة للمساجد والمراكز الدينية، بل للإعلام والمدارس وقادة المجتمعات المحلية أيضا.
ولا بد هنا من التأكيد الحاسم، وبما لا يترك مجالاً للبس أو التضليل، بأن الإسلام السنيّ المستند إلى الأصول والتقاليد الصحيحة وبجميع مذاهبه الفقهية يرفض رفضا قاطعا أفكار التكفيريين ومزاعمهم. ويجب على المسلمين المساهمة بشكل فاعل في تعرية الخوارج والتصدي لهم ولنهجهم في انتقاء نصوص دينية وإخراجها من سياقها وتوظيفها بما يخدمهم، فيحرّفوا بذلك تعاليم الإسلام الحنيف.
وبطبيعة الحال، فإن المجتمع الدولي يخوض أيضاً معركة من أجل المستقبل، وهي معركة لا تنحصر في ميادين القتال فحسب، ذلك أن عدونا يستهدف كل ميدان يعيش فيه الناس ويتفاعلون من خلاله: في المطارات والمقاهي وفي الشوارع . وعليه، فإن التعاون الأمني واجب، ويوازيه أهمية اتباع نهج شمولي. فلا بد لنا أن نفتح قنوات التواصل بين قاراتنا وأممنا، وفي داخل البلد الواحد، وبين الناس.
وهذا يعني بالضرورة أن نحسّن من وسائل التواصل فيما بيننا، وأن نتشارك في المعلومات ونستثمر التكنولوجيا المتاحة لنا. يجب علينا الاستفادة من نفس الأدوات التكنولوجية الحديثة التي تُستخدم ضدنا، وأن نفعل ذلك مع مراعاة أهمية احترام خصوصية الناس. وفي هذا السياق، فإن المخترعين المبدعين في القطاع الخاص، وخصوصا في مجال التكنولوجيا، هم في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبلنا، ولا بد من إشراكهم في جهودنا.
إن هذه الحرب عالمية الطابع، وبالتالي يجب ألا ينحصر التركيز فيها على الشرق الأوسط، بل يجب أن يمتد ليشمل إفريقيا الغربية والشرقية، وجنوب شرق آسيا، ومنطقة البلقان.
أما في سوريا، فإن النهج العسكري لن يحقق نصرا لأحد، بل لن نجد سوى المهزومين، والمزيد من المعاناة للمدنيين. وفي نهاية المطاف، يتطلب إنهاء العنف عملية سياسية تسترشد برؤية دولية موحدة، يقودها كل مكونات الشعب السوري.
وفي العراق، فإن الدعم الدولي في غاية الأهمية في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة والشعب إلى القضاء على الخوارج، ويكمن أحد مفاتيح تحقيق النصر والحفاظ عليه في اتباع نهج شامل يضمن إشراك جميع مكونات المجتمع العراقي في العملية السياسية وفي إدارة مؤسسات الدولة.
أصدقائي، في خضم سعينا لتحقيق هذه الأهداف، يجب على مجتمعنا الدولي أيضا أن يتحمل مسؤوليته نحو من دُمرت حياتهم، وأقصد بهم ملايين اللاجئين والضحايا والمحرومين. لن نستطيع تحقيق النصر ضد آفة الإرهاب والعنف دون أن نستأصل جذريا المظالم التي تشكل تربة خصبة للإرهاب. فمن سجن أبو غريب إلى شوارع كابول ومدارس حلب، نجد أن الظلم والمهانة قد تركا خلفهما معاناة إنسانية كبيرة.
وليس هناك من ظلم بمرارة كبيرة أكثر من حرمان الفلسطينيين من حقهم في الدولة. وأؤكد هنا أن السلام هو قرار يتخذ عن وعي وإرادة، وعلى إسرائيل أن تتقبل السلام، وإلا فإنها سوف تغدو محاطة بالكراهية وسط منطقة تموج بالاضطراب.
وتعد حماية القدس مصدر قلق كبير، فهذه المدينة المقدسة ركيزة للسلام ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم أجمع.
وهذا الأمر على رأس أولوياتي شخصيا، وأولوية لكل المسلمين؛ فنحن نرفض رفضا قاطعا أية اعتداءات على الأماكن المقدسة الإسلامية أو المسيحية. ونرفض أية محاولة لتغيير الهوية التاريخية للقدس كمدينة إسلامية مسيحية عربية. وبحكم موقعي كوصي على المقدسات الإسلامية في القدس، سأستمر في حماية هذه الأماكن والتصدي لكل الاعتداءات على قدسيتها، بما في ذلك محاولات التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى/الحرم الشريف.
أصدقائي، ربما أن ميدان المعركة الرئيس والأكثر أهمية لهذه الحرب الحاسمة في عصرنا هو ميدان الفكر والعقل. فأيديولوجية الكراهية والقتل وتدمير الذات تنتشر على الإنترنت، ويجب مجابهتها بفكر مضاد قائم على الأمل والتسامح والسلام.
إننا في الجمعية العمومية، وفي مناطقنا وبلداننا ومجتمعاتنا في جميع أنحاء العالم، نملك القدرة على طرح الفكر والرؤية الصحيحة، لذا دعونا نعمل ونثبت أننا نملك الإرادة لذلك.
وشكرا لكم.
وضم الوفد الأردني في الجلسة العامة للأمم المتحدة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية وشؤون المغتربين، ومدير مكتب جلالة الملك، ومندوبة الأردن الدائمة لدى الأمم المتحدة، والسفيرة الأردنية في واشنطن.