باريس تنشط دبلوماسيا لإنجاح المبادرة الفرنسية

تنشط الدبلوماسية الفرنسية هذه الأيام بين مختلف دول العالم لإجراء مشاورات تضمن نجاح مبادرتها بعقد المؤتمر الدولي للسلام، ضمن مراحل تبدأ في شهر نيسان (إبريل) القادم، وسط تشكك مسؤولين من مصيرها، في ظل الموقف الإسرائيلي المضادّ، والمشهد العربي الإقليمي المضطرب.
واعتبر المسؤولون أن "الظروف الموضوعية الراهنة لا تسمح بتوفر العناصر اللازمة لنجاح مسار المؤتمر القادم"، وإنما يرمي الجهد "الباريسيّ" الراهن إلى "خلق انطباع أمام الرأي العالمي بوجود حراك فاعل على صعيد العملية السياسية، بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، رغم الانشغال بملفات المنطقة".
ولم يستبعد بعضهم ثيمة "العلاقة الطردّية" بين "الأحداث الجارية في الأراضي المحتلة ومساعي فتح ملف التسوية مجدداً"، عبر مبدأ "التناوب" في تسلمّ الدفة، إزاء انكفاء الولايات المتحدة صوبّ التوجه لساحات أخرى أكثر حيوية بالنسبة لرؤيتها الاستراتيجية، عدا الانغراق في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة.
وتنصّ المبادرة الفرنسية، وفق حديث مسؤول فلسطيني لـ"الغد" من فلسطين المحتلة، على "مرحلتين؛ الأولى تتضمن عقد اجتماع، في شهر نيسان (إبريل) القادم بباريس، يضم عشرات الدول الراغبة في تحريك العملية السلمية مجدداً، من دون وجود الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي".
أما "المرحلة الثانية؛ فتتضمن عقد مؤتمر دولي للسلام في فرنسا، ما بين حزيران (يونيو) وتموز (يوليو) القادمين، بحضور الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، من أجل تحريك العملية السلمية، وتحقيق تقدم في ملف التسوية السياسية".
ويسبق ذلك جولات مكوكية للخارجية الفرنسية في فضاءات العواصم الغربية والعربية لإجراء سلسلة مشاورات واسعة حول المبادرة، تزامناً مع نشاط سفرائها لعرض التفاصيل أمام الدول المعنية.
بيدّ أن الوزير والعين السابق نبيل الشريف توقف عند البند المتعلق بمصير القدس المحتلة في المبادرة الفرنسية، والذي يتسبب "بمقتلها ابتداءً، عند نصّها على تجزئة القدس الشرقية إلى عاصمة لدولتين، (فلسطينية وإسرائيلية)، بما ينسجم مع الموقف الإسرائيلي".
وأضاف الشريف، لـ"الغد"، إن "هذا الطرح المثقلّ بالشكوك يشكل قنبلة موقوتة عندما يعرض للتفاوض، نظير مجابهته برفض أردني وفلسطيني وعربي ثابت".
واعتبر أن المبادرة بذلك قد "استهلت بداية خاطئة، فيما كان حريّا بها البقاء بعيدة عن نقاط الخلاف الإشكالية، ولكنها باتت أقرب إلى الطرح الإسرائيلي".
واعتبر أن "أي تحرك جاد يرمي إلى تحقيق السلام في المنطقة، وإعادة الحقوق الوطنية المشروعة إلى الشعب الفلسطيني، يعدّ جهداً مرحباً به، حيث آن الآوان لبلوغ هذا الهدف".
ولكنه أعرب عن "مخاوفه وشكوكه من هذا التحرك"، إزاء الهدف والتوقيت والنتيجة، معبّراً عن "خشيته من أن يكون تحركاً لا يفضي إلى شيء".
وزاد قائلاً إن التحرك "ليس جديداً، حيث يمتد الحديث حوله إلى قرابة العام، عندما طلب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري تأجيل طرح المبادرة لما بعد الاتفاق النووي الإيراني، إلا أن طرحها حالياً في ظل الظروف الراهنة قد يستهدف إعطاء الانطباع بأن هناك جهوداً تبذل لتحريك العملية السلمية".
واعتبر أن "المبادرة تفتقر للعناصر الأساسية اللازمة لنجاحها، فالوضع العربي في أسوأ حالاته، فضلا عن الانقسام الفلسطيني، الممتد منذ العام 2007، بينما الإدارة الأمريكية منشغلة بالانتخابات الرئاسية حتى نهاية العام الجاري ولن تستطيع تقديم أي طرح أو صيغة للعملية السياسية، رغم أهمية دورها في هذا الملف إذا صدقت نواياها".
بينما "بلغ الاحتلال الإسرائيلي حداً من الغطرسة والتعنت والصلف إزاء ما يعتقده فرصة تاريخية لتحقيق أهدافخ وارتكاب أفعاله العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، بعيداً عن ضغط المحاسبة والمساءلة، مما جعله غير معني بالاستجابة لأي جهود جادة من أجل تحقيق السلام في المنطقة".
وقال إن "الطرح الفرنسي، الذي نأمل أن يكون جاداً ويهدف إلى تحقيق السلام بالمنطقة، مثقل بالكثير من المعيقات والمحبطات، مما يدعو للشك من استهدافه فقط مشاغلة الرأي العام وخلق الانطباع بأن هناك حركة لأجل الحركة، وليس لتحقيق نتيجة ملموسة".
وأوضح أن "التحرك الفرنسي يتم بالتنسيق مع الولايات المتحدة، وليس من تلقاء نفسها، ضمن ملف يدخل في المنظور الأمريكي من نطاق الاختصاص، بعيداً عن الدور الأوروبي والأممي الفاعل فيه".
وأشار إلى أن "الظرف الراهن ليس مواتياً لهذا التحرك، كما أن الظروف الموضوعية المحيطة بالقضية الفلسطينية لا توفر عناصر النجاح المطلوبة للمبادرة، بدون الانتقاص من الجهد والعزيمة الفرنسية لتحقيق شيء في ملف التسوية السلمية".
ولم يستبعد وجود علاقة بين إعادة طرح المبادرة مجدداً والأحداث الراهنة في الأراضي المحتلة، من أجل "إنقاذ الاحتلال الإسرائيلي من المأزق الذي يعيشه راهناً أمام الإرادة الشعبية الفلسطينية المناهضة لعدوانه، وفي ظل حالة الرعب والإرباك التي أصابت مؤسسته العسكرية والسياسية والحياة الداخلية المشلولة".
وكان الرئيس محمود عباس قد أكد تأييده للمبادرة الفرنسية، مطالباً "بتشكيل آلية دولية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وفق جدول زمني محدد"، بينما اعتبرها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "مقلقة" ومصيرها "الفشل"، أمام تهديد فرنسا بالاعتراف بفلسطين كدولة في حال إخفاق المؤتمر.
محكّ نجاح المبادرة الفرنسية
من جانبه، قال عضو المجلس الاستشاري في حركة "فتح" اللواء الحاج خالد مسمار إن "سلطات الاحتلال أعلنت رفضها للمبادرة الفرنسية رغم أنها مستفيدة منها أكثر من الجانب الفلسطيني، الذي صرّح بموافقته عليها".
وأضاف، لـ"الغد"، أن "الفلسطينيين لا يحتاجون إلى مبادرات جديدة، فالقضية الفلسطينية واضحة للجميع"، منوهاً إلى "جهد فرنسا صاحبة المواقف الايجابية الكثيرة تجاه القضية الفلسطينية، ومحاولتها الاستقلالية بمبادرات خاصة، في ظل الإدراك الفلسطيني العربي للانحياز الأميركي للاحتلال على حساب حقوقهم".
وأوضح أن "الرئيس عباس رحب بالمبادرة رغم إعلانه بأنها ليست بالمستوى المطلوب، ومع ذلك فقد رفضتها الحكومة ألإسرائيلية، مما بعث برسالة واضحة للعالم بأن الجانب الإسرائيلي هو الذي يرفض منطق السلام في المنطقة".
واعتبر أن "محكّ نجاح المبادرة يقضي باتفاق فرنسا مع الولايات المتحدة على عرضها أمام مجلس الأمن، فعندها ستجد طريقها للنجاح"، مستبعداً "نجاحها، إذ بدون الولايات المتحدة فلن تستطيع فرنسا طرح ما يخرج عنه من نتائج أمام مجلس الأمن".
وبينّ أن "مواقف غالبية الدول الأوروبية إيجابية تجاه القضية الفلسطينية، ولكن الولايات المتحدة تعدّ المسيطرة والمهيمنة على القرار الدولي".
ولفت إلى أن "القيادة الفلسطينية طلبت أكثر من مرة عقد المؤتمر الدولي خارج نطاق السيطرة الأميركية، مثلما طلبت توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، في ظل العدوان الإسرائيلي المتصاعد في الأراضي المحتلة، من الاغتيالات والاعدامات الميدانية والتنكيل ومصادرة الأراضي وهدم المنازل والاعتقالات والاستيطان، وكل ذلك يجري أمام المجتمع الدولي".
بينما اعتبر خبير القانون الدولي أنيس قاسم إن "المبادرة الفرنسية مجرد ملهاة جديدة، تقوم بها فرنسا بالنيابة عن الولايات المتحدة، في ظل الظرف الانتخابي الأميركي الذي لا يسمح لها بالدخول في الدور الذي كانت تلعبه بين الجانبين سابقاً".
وقال، لـ"الغد"، إن "هذا التحرك وجد ترحيباً من القيادة الفلسطينية، التي استمرأت لعبة المشاريع السياسية، رغم ما يحيط بالمبادرة من شكوك ومخاوف عديدة". واستبعد "نجاح المؤتمر الدولي، لأن فرنسا ليس لها وزن سياسي لدى الكيان الإسرائيلي، ولأن الاحتلال لم يعد يعطي الاهتمام أو الثقل لموقف القيادة الفلسطينية، والتي تقوم بتنفيذ ما عليها من التزامات بدون انزعاج أو التزام الطرف المقابل بها، لاسيما التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية وبين سلطات الاحتلال".
وأضاف أن "الجانب الإسرائيلي لا يكلّ من التعبير عن إبداء استعداده بالمفاوضات لكسر الضغط الممارس من بعض الدول الأوروبية عليه، لكن التساؤل حول ما إذا كان مستعداً للتسوية التاريخية، وفق ما نص به إعلان المبادئ لاتفاق "أوسلو".
ونوه إلى أن "التساؤل يبرز هنا حول طبيعة التسوية التي قد يقبل بها الاحتلال، في ظل مصادرته لما يزيد على 42 % من مساحة الضفة الغربية المحتلة، وإقامة المستوطنات بطريقة تضمن تقطيع التواصل الجغرافي الفلسطيني، وتمنع إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة ضمنها".
ورأى أن "المبادرة الراهنة تأتي في ظل "التناوب" القائم بين الأطراف المعنية بالعملية السياسية عند انشغال الآخر، من دون أن يجرّ نتائج ملموسة، حيث لا تأثير ماليا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا على الجانب الإسرائيلي سوى للولايات المتحدة".
وتابع قائلاً "إذا لم تمارس الإدارة الأميركية الضغط المطلوب على الاحتلال الإسرائيلي، فلن تكون هناك تسوية سلمية".
ويشار إلى أن وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس قد طرح المبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي للسلام لأول مرة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي في خطاب بباريس. واستمر هذا الالتزام كجزء من سياسة الحكومة الفرنسية بعد استقالة فابيوس من وزارة الخارجية وتعيين جان مارك اياروا بدلا عنه.
ومن ثم اتخذت المبادرة الفرنسية طابعاً أكثر جدية، بعد عرضها رسمياً على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، مؤخراً.