هل دخلت مصر ساحة العصيان المدني ؟؟!!

كان وقوع الانقلاب العسكري في مصر حدثا صاعقا، وصعبا للغاية، بالغ التعقيد شديد الحساسية، وكان مما زاد الامور تعقيدا اعتراف الدول الكبرى بهذا الانقلاب ومباركتها له ، فكان ذلك منهم تنكرا للقيم الاخلاقية ، وخزيا وخيانة للشرف الانساني ، وخرقا للمعايير والقانون الدولي، وتخل عن القيم الديموقراطية ؛ حيث تجنبت واشنطن وصف ما حدث بانه انقلاب ، وايدتها بذلك تبيعتها بريطانيا، ودول اخرى حليفة ، واختطف العسكر الرئيس المنتخب شرعيا ،فاشعلوا بذلك نار الفتنة من مرقدها . وبالرغم من انه كان انقلابا عسكريا واضحا على نظام منتخب ديمقراطيا من اغلبية الشعب المصري، وتحت اعين وبصر وبصيرة العالم كله ، الا انه كان ذلك بالنسبة لمصر تراجعا واضحا عن مشروع الثورة وخيانة لمبادئها.

ورغم ما احدثه الانقلابيون من اغلاق للعديد من المحطات الفضائية ، وتكميم افواه الاعلام والاعلاميين ، واعتقال الصحفيين والمعارضين السياسيين ، باستثناء الموالين لهم طبعا ، وقتل المتظاهرين عمدا حتى اصبح ذلك سياسة لاجهزة الامن القمعية ؛ ذلك مما اثار الشارع المصري ، واوقد نار الفتنة والغضب في كل مكان ، فتجمعت الملايين وزحفت بجموعها ، تندد بالانقلاب والانقلابيين ، وعجت الميادين بالملايين ودوت جنباتها وساحاتها تندد بانقلاب العسكر ، وتطالب بعودة الشرعية

 وازدادت الميادين الغاصة بالجماهير غليانا واتقادا ، وتجمعت المظاهرات المليونية - والتي اعلنت منذ باكورة تحركها انها احتجاجات سلمية القلب والقالب - في ميادان رابعة العدوية والنهضة وغيرها ، وانتشرت مثيلاتها في جميع شوارع مصر وساحاتها وازقتها في القاهرة والجيزة والمنيا واسيوط وشمال سيناء ،وباقي المحافظات في المدن والقرى

 مظاهرات واحتجاجات دائمة ومستقرة في بعض الميادين، رافضة للانقلاب العسكري ومظاهرات متواصلة تجوب الشوارع ، فواجه الانقلابيون هذه الاحتجاجات بالقتل والتنكيل والسحل والاعتقالات ، وبالرغم من كل ذلك ، تستمر المظاهرات والاحتجاجات دون خوف او وجل في مختلف الاماكن ، وفي كل الاوقات ، ليلا ونهارا، وتتنوع مسمياتها وتقليعاتها ووسائلها ولكن هدفها واحد ، مسيرات بالدرجات والسيارات والسلاسل البشرية ،جماعات صغيرة وكبيرة

مظاهرات بتقليعات غريبة المظهر على الحمير والخيول ، قامت بها فئة العمال البسطاء في الصعيد، وهم افقر فئات المجتمع المصري ، مظاهرات في الجامعات والساحات ، مسيحيون ومسلمون جنبا إلى جنب ، حيث شارك المسيحيون اخوانهم المسلمين باعداد هائلة بانضمامهم إلى رافضي الانقلاب عقب مجزرتي رابعة العدوية والنهضة ، وقفات ليلية مصحوبة بسلسلات بشرية تمتد إلى جوانب الطرق، تشارك فيها النساء والاطفال و الشيوخ والرجال والشباب والشابات ، عائلات باكملها ،مظاهرات واحتجاجات امتازت بالثبات والاصرار والابتكار والتجديد ، تمترست وتخلقت بثقافة اللاعنف والسلمية حتى النخاع؛ لكيلا يتم تشويه صورتها، وتستغل حراكاتها وثورتها

وما الشائعات والاتهامات التي روجتها ابواق الانقلابين عنها الا محض كذب وافتراء ،وتزير وادعاء، يراد بها تشويه الصورة النقية، واستمرت المسيرات ، ولكن دون استجابات ، بل ازداد الانقلابيون عنفا وقتلا وتدميرا، حاول الانقلابيون فرض واقعهم الجديد، ولكن اغلبية الشعب المصري كانت لهم بالمرصاد ، رفضته ومجته ومقتته بسبب انكشاف اهدافهم ومآربهم ،وانكشاف خططتهم وخطط حلفائهم العلمانيين الممنهجة لافساد اخلاق الامة ،ومحاربة الاسلام والمسلمين، وتنكشف الحقائق يوما بعد يوم، وتدب الخلافات فيما بينهم سريعا، فيخرج من لعبتهم الخبيثة احد زعمائهم الاساسيين ، محمد البرادعي ،خوفا على سمعته الدولية ، ولهول ما رآه من مجازر وقتل وتنكيل، هرب الرجل إلى اوروبا ناجيا بروحه واخلاقه.

ادركت الثورة المصرية الرافضة للانقلاب والانقلابيين ان الاخلاق هي السياج الواقي والحصن المنيع، والقيمة الضرورية لاستكمال تحقيق اهدافها،بالرغم مما وصل اليه الانقلابيون من انحطاط الاخلاق ولؤمها وفسادها، حيث استقرت في الحضيض فظهرت ازمات حادة في اخلاقهم الاعلامية ، فسقطت في اوحال النفاق والتزوير، والكذب والتمويه والخداع ، وتشويه الحقائق وقلبها وتمويهها ،وحجبها وبانت الانحيازية فيها بوضوح ، فاظهرت جانبها المظلم كظلمة قلوب اصحابها واسيادهم ، فكان الفساد الاخلاقي هو المرض الحقيقي الذي يهدد الشخصية المصرية ، وغدت الديموقراطية المصرية في مهب الريح، واطبقت عليها محنة عمياء ...

لكن الثورة الحقيقية التي تطالب بالشرعية ، تمثلت باخلاق الثوار العظام ، وعلمت "ان الثورة عملية قتل وخلق معا" كما قال الشاعر الانجليزي (اليوت) ، فكان اعتصام رابعة العدوية نموذجا رفيعا في الاخلاق العالية ،والقيم السليمة ، تنظيما وتعاونا ،وتكافلا وتضامنا ، وصبرا ورباطة جأش، لم يأبه العسكر الانقلابيون لكل ذلك؛ فداسوا على دماء الشهداء، واعلن جنرالاتهم الحرب على بيوت الله وحاصروا المصلين فيها واقتادوهم إلى السجون والمحاكم، فغرقوا في حضيض الرجز والآثام ،وباعوا الشرف والكرامة والنخوة العربية الاصيلة ، وصم العسكر آذانهم، وصالوا وجالوا ،وعاثوا في الديار فسادا ، وامتهنوا القتل والتدمير والتشريد والاعتقالات والزج بالسجون. ولما لم يبق صبر وتحمل ، حيث نفذت كل الاساليب والوسائل

 وما زال هؤلاء يغمضون اعينهم ويصمون آذانهم عن الرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الباطل،دوت صيحة الثورة مزلزلة كالصاعقة ، وكان لا بد من اتخاذ اساليب جديدة لمقاومة التعنت واسترجاع الشرعية، وركوب صهوة العصيان المدني ، فكان النداء عاليا إلى تفعيل العصيان المدني والاصرار عليه، وبخاصة ان مصر اصبحت على شفا هاوية افلاس اقتصادي ومالي وربما قرب ذلك من نهاية الانقلابيين.

ان العصيان المدني الذي دعي اليه الشعب المصري كبديل للصراع القائم على العنف والعداء اللدود ، هو صيحة عالية مدوية ،داعية إلى التمرد المدني وعدم الامتثال لمطالب الحكام الجدد ورفض الخضوع لسلطة الانقلابيين الظالمة ، وهو اسلوب تكتيكي للمطالبة باعادة الشرعية واجراء فعال لنيل الحقوق المسلوبة والمنهوبة غصبا ، وهو عمل عام رمزي سياسي سلمي ، يتم بوعي كامل ،يتضمن مبادئ ووسائل للاحتجاج غير عنيفة تنادي بالتعقل، ويخاطب حس العدالة لدى الشعب يعمل به ويطبق لاحداث تغيير سياسة الانقلابيين، واسترجاع الشرعية، والعصيان المدني هذا يرفع شعار ( اسمعني فانا اتحدث اليك ... بصمت) يخاطب حس العدالة لدى غالبية الناس، وفقا لرأي وتفكير ناضج

 فلعل الاسلوب الذي يسمعونه لانه يهدف إلى اطلاق حوارات عامة لتحقيق عودة الشرعية ، استخدمه الزعيم الهندي الكبير ( ماهونداس غاندي ) ضد نظام تعسفي وضد بريطانيا للمطالبة باستقلال بلاده الهند استقلالا تاما فتحققت به مطالبه ، واستخدمه الامريكان لنيل حقوقهم المدنية فكان لهم به ما ارادوا.

ان العصيان المدني الذي تنادى له ابناء الشعب المصري هو نوع من الدعوة للائتلاف من اجل نيل الحقوق واسترجاع الشرعية ، ان هذا الاسلوب هو اكثر الاساليب تكتيكية للمطالبة بالحقوق ؛ لانه مبدأ يكتسي مسحة الحق الادبي لاولئك الذين يسعون وراء حقهم الشرعي. لقد كان للعصيان المدني في كثير من التجارب مزية ظاهرة ترك بصمة العنف باسلوب مادي، فكان له قوة بالغة لا يمكن قياسها، ولكنه يحتاج إلى اعلام قوي واع ، ولسان نظيف وصادق، لانه يتوجه إلى اثارة الضمير الوطني وتحريكه باسلوب افضل مما تستخدمه المظاهرات

ومما يزيده فعالية اتخاذ اجراءات مباشرة لتشمل حالات الاعتصام في المؤسسات والاماكن التي يسيطر عليها الانقلابيون، وكذلك بالمسيرات الجماعية اضافة الى الامتناع عن تأدية مطالب الحكام ،فان المناشدة العامة تجه إلى ضمير الشعب والى ذلك الاحساس الديني والوطني باخوة الانسان لاخيه الانسان.

ويجب ان لا تقتصر الوسائل على البيانات والخطب البليغة الرنانة والاحتجاجات ، ولكن الاكثر من هذا يجب ان تكون حركة تتوسل باسلوب عدم العنف ،واذا ما جوبهت هذه الحركات الاحتجاجية التي تعبر عن العصيان المدني بالقوة ، يجب ان يدير المحتجون للانقلابيين الخد الآخر او ان يذهبوا إلى السجون وهم يرددون الاهازيج والاغاني الدينية والوطنية ويرتلون القران تسبيحا لله.

ان مبدأ العصيان المدني هذا يبدأ من منطلق فكرة صادرة من يقين ادبي تذكر الناس بعودة الشرعية المنتخبة ديمقراطيا ، ان على المناضلين في هذا العصيان ان يكونو على ثقة إلى حد معقول من ان هذا العصيان المدني سوف يجلب الموت والسجن في ظل النظام المستبد القائم الذي كبت حريات الافراد وكتم انفاسهم،وانتهك حقوق الشعب لذلك اصبح تنفيذ العصيان المدني كثورة بيضاء بالنسبة للشعب بكل شرائحه اكثر الحقوق قدسية واكثر الواجبات حتمية

 وعلى ذلك فان نجاحه سيكون مدينا لفاعلية منفذيه الاخلاقية،فلا يكون المناضل في العصيان المدني مشحونا بالغضب وعليه ان يتحمل الانقلابيين وبلطجيتهم وهجومهم عليه ولا يرد عليهم ولا يخضع لخوف من عقاب ، فالاخلاق العالية والصبر هما السياج الواقي والحصن المنيع الضروري لاستكمال تحقيق اهداف الثورة وهذا المخزون الاخلاقي سوف يحمي مصر من الحرب الاهلية.