الإخوان المسلمون وكارثة الحكم : التجربة المصرية؟
ما جرى في مصر مؤخراً لا يمكن وصفه بأنه كان نجاحاً للمعارضة بقدر ما كان سقوطاً سريعاً لتجربة الإخوان المسلمين في الحكم.
وفي الظاهر يبدو أن ما حدث يتعارض مع منطق الأمور الذي يفترض أن الإخوان المسلمين الذين جاءوا إلى الحكم في مصر بإرادة أمريكية، لن يخرجوا من الحكم إلا بإرادة أمريكية، ومن هنا ننطلق. هناك ما يكفي من المؤشرات أن حركة الإخوان المسلمين قد جاءت إلى الحكم في مصر بمباركة أمريكية غير معلنة بعد أن حصلت أمريكا على ضمانات كافية باحترامهم لاتفاقية السلام مع إسرائيل والالتزام بالأهداف الأمريكية في المنطقة. وقد سهلت أمريكا أمور انفراد الإخوان المسلمين بالحكم في مصر إلى الحد الذي سمحت فيه بإحالة مجمل أعضاء المجلس العسكري المصري على التقاعد باستثناء أصغر الأعضاء سناً وهو الفريق السيسي.
والهدف الأمريكي من تولي الإخوان المسلمين الحكم هو إضعاف مصر من الداخل وتدمير اقتصادها ولكن بأيدٍ مصرية منعاً لاستثارة الشعور الوطني المصري فيما لو تم ذلك بتدخل أجنبي. ولكن ما الذي حصل وجعل إخراج الإسلاميين من الحكم ممكناً بالرغم من عدم الرضا الأمريكي خصوصاً وأن نجاح الإخوان المسلمين في إضعاف مصر وتمزيقها بدأ يعطي ثماره وبأسرع مما توقع الكثيرون ؟ مقدرات الجيش المصري وغالبية المساعدات العسكرية والفنية والتدريبية الواردة إليه هي من أمريكا .
والجيش المصري بذلك لا يستطيع أن يتجاوز الإرادة الأمريكية. ولكن ما الذي حصل فعلاً وجعل القوات المسلحة المصرية تفعل ما فعلته بالرغم من الموقف الأمريكي المناصر للإخوان المسلمين؟ من الواضح أن العقيدة العسكرية المصرية تُميز ، حالياً، بين ما هو محلي مصري وما هو خارج الحدود بما في ذلك العلاقة مع إسرائيل والفلسطينيين حيث تلتزم القوات المسلحة المصرية بالرؤيا الأمريكية.
أما فيما يتعلق بأمن وسلامة الوطن المصري والشعب المصري فيبدو أن العقيدة العسكرية المصرية تعتبر ذلك أمراً داخلياً وخطاً أحمراً لا تسود فيه إلا مصلحة مصر بغض النظر عما تريده أمريكا. إن خلط الأوراق والفوضى السياسية والتشريعية ابتدآ بعد انتخاب محمد مرسي رئيساً لجمهورية مصر بأغلبية ضئيلة تجعل منه رئيساً بالمعنى الدستوري ولكنها لا تعطيه التفويض الأدبي والسياسي لتغيير معالم الدولة.
والشعب انتخب محمد مرسي كشخص لرئاسة الدولة ولم ينتخب حركة الإخوان المسلمين كحزب لإدارة الدولة. وقد أثبتت الوقائع والتطورات التي أعقبت انتخاب مرسي لرئاسة الدولة أن هنالك مخططاً إخوانياً "لأخونة" الدولة المصرية وجعلها ظلاً لحركة الإخوان المسلمين وتعبيراً عنها وعن أهدافها. وسياسة "الإخونة" لو سمح لها بأن تأخذ مداها النهائي لجعلت من الديمقراطية في مصر خياراً محصوراً بالإخوان المسلمين كون الحركة في أصولها إقصائية وليست جامعة. لقد شعرت قوى المجتمع المدني بخطورة سياسة "الأخونة" خصوصاً وأنها بدأت تتسارع بشكل علني يقترب إلى حدود الفجور السياسي.
واستنزف الإخوان المسلمون منصب الرئاسة وصلاحياته إلى الحدود القصوى في السنة الأولى من أجل التعجيل بعملية "الأخونة" التي امتدت لتشمل معظم أجهزة الدولة من القضاء إلى السلطة التشريعية بعد أن تم اختطاف الدستور والبدء في سياسة تعيينات إقصائية في المراكز الحساسة.
وشعرت القوات المسلحة المصرية بالخطر القادم عليها خصوصاً وأن عملية "أخونة" وزارة الداخلية والأجهزة المدنية قد ابتدأت بالفعل. وأخذت الأمور تتضح أمام المواطن المصري العادي بأن العملية لا تهدف إلى "أسلمة" الدولة المصرية من ناحية دينية، بل "أخونة" الدولة المصرية من ناحية سياسية. وقد أدى التسارع الملحوظ "لمكتب الإرشاد" ومحمد مرسي في تطبيق برنامج "أخونة" الدولة إلى تفاقم شعور المصريين بالخوف والإحباط والغضب على مصير وطنهم.
وابتدأ الشباب المصري في التحرك ومعهم باقي قوى المجتمع المدني في مصر . وكان واضحاً أن الجميع في سباق مع الزمن. الإخوان المسلمون يريدون "أخونة" الدولة المصرية وابتلاعها قبل حلول موعد الانتخابات، والقوى الأخرى في المجتمع المصري تريد منع حصول ذلك قبل فوات الآوان.
الذي حصل فعلاً أن المعارضة وقوى المجتمع المدني المصري كانت تهدف إلى وقف انقلاب كانت تعده حركة الإخوان المسلمين للاستيلاء على الدولة المصرية باستعمال "الشرعية" التي توفرها الديمقراطية للرئيس المنتخب.
فبرنامج "أخونة" الدولة هو انقلاب على الديمقراطية كونه يهدف إلى تحويل النظام السياسي التعددي في الدولة المصرية ،وهو أساس الديمقراطية، إلى نظام أحادي الهوية والمذهب يقترب في أصوله وغاياته من نظام المٌلا في دولة مثل ايران تؤمن "بولاية الفقيه" والذي يعادل بمفهوم "الأخونة" ولاية "المرشد العام".
وبالمقياس نفسه فإن "أخونة" الدولة هو مسار إقصائي يخدم مجموعة بعينها وهو بذلك يتناقض مع مسؤوليات رئيس الجمهورية المنتخب وواجباته الدستورية في أن يكون رئيساً لجميع المصريين وليس لمجموعة بعينها أو حزب بعينه. وهكذا، عشية انطلاق ثورة الشباب المصري الثانية في 30 يونيو كانت الأمور قد اتضحت بما لا يدع مجالاً للشك. فقوى الشباب والمعارضة المصرية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدستورية كانت تعلم بالضبط ما لا تريد ، وإن لم تكن متفقة تماماً على ما تريد.
فالمعارضة المصرية الضعيفة والمفككة لم تملك التنظيم أو التنظيمات الجامعة المانعة اللازمة للتصدي لتنظيم عقائدي قوي له امتداداته خارج الحدود وإمكاناته الذاتية الضخمة كتنظيم الإخوان المسلمين.
وبالرغم من ذلك انطلقت قوى الشباب المصري ومن ورائها المعارضة المصرية في مسيرات ضخمة تطالب بإنهاء نظام حكم محمد مرسي أو بالأحرى نظام حكم الإخوان المسلمين وفي الواقع كانوا بذلك يسعون إلى إنهاء مخطط "أخونة" الدولة المصرية.
لقد كان واضحاً أن القوات المسلحة المصرية لم تكن راضية عن تغيير معالم الدولة المصرية وصفتها المدنية، وكانت تشعر أن عملية الانقضاض عليها كانت قضية وقت لا أكثر ولا أقل وأن مكتب الإرشاد لحركة الإخوان المسلمين كان يعلم علم اليقين بأن "أخونة" الدولة المصرية لا يمكن أن تتم وتأخذ مداها النهائي إلا إذا تمت السيطرة على القوات المسلحة أو تحييدها.
وهكذا ابتدأت الخيارات تتضح وطبيعة التحالفات تتبلور. ولكن يبقى السؤال هل زج الشعب بقواته المسلحة إلى هذا الموقع دون أن يترك لها خيار آخر؟ أم هل استغلت القوات المسلحة التطورات الأخيرة لركوب الموجة والإطاحة بمحمد مرسي وحكم الإخوان المسلمين وبالتالي ببرنامج "أخونة" الدولة المصرية؟ مرة أخرى
ما جرى في مصر لا يعني أن المعارضة قد انتصرت بقدر ما يعني أن الإخوان المسلمين قد فشلوا في الحكم. وهذه المعادلة الصعبة والتي يمثل أحد طرفيها وجهة نظر الأغلبية المطالبة بالحفاظ على هوية مصر وعروبتها ولكنها تفتقر إلى التنظيم والإمكانات اللازمة، في حين أن الطرف الآخر الذي يمثل تيار "أخونة" الدولة المصرية هم الأقلية ولكنهم يملكون التنظيم القوي والسلطة.
وهذه المعادلة تطلبت دعم القوات المسلحة المصرية للتيار المعارض منعاً لفشل المعارضة وبالتالي السماح بإتمام عملية "أخونة" الدولة والاستيلاء عليها وتحويلها إلى مشيخة للإخوان المسلمين. إن ما جرى إذاً لا يعكس أي تطور جديد سوى أن الشعب المصري قد نجح في تأكيد إرادته وقدرته على رفض ما هو غير مقبول أي "الأخونة" دون أن يقدم البديل الحقيقي القادر والفاعل ، ومن هنا كان دور القوات المسلحة المصرية أساسياً وحاسماً في إحداث التغيير. وقد استجاب الإخوان المسلمين لتحرك المعارضة في بداياته باستعمال سلاح "الشرعية" في وجه أي محاولة للتغيير.
وفي هذا السياق، حرص الإخوان على ربط "الشرعية" "بالشريعة" كشعار متكامل للرد على ثورة 30 يونيو. وهذا الربط يعني أن "الشريعة" هي جزء من "الشرعية" وأن أي محاولة للتعدي على "الشرعية" ممثلة بمحمد مرسي هي تَعَدٍ على "الشريعة" .
وهكذا قام الإخوان المسلمون بتسخير الدين لخدمة السياسة دون وجه حق. من الخطأ الافتراض بأن ما جرى في مصر يعني حتمية انحسار التيار الإسلامي المسيس من الحياة السياسية في العالم العربي أو حتمية انهياره. ما جرى هام وآثاره خطيرة على مستقبل الإسلام السياسي وعلى مستقبل مصر .
ولكن الخطاب التعبوي التكفيري الإقصائي الجهادي الذي يلغي العقل ويأمر العاطفة قد جاء رداً سريعاً ومباشراً من حركة الإخوان السملمين على ما جرى.
وخطاب محمد بديع (المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر) يوم الجمعة 05/07/2013 في ميدان رابعة العدوية كان تتويجاً لهذا التوجه والذي نتج عنه العديد من الضحايا عقب صدامات مباشرة نتيجة لذلك الخطاب. والرسالة واضحة: إما بقاء الإخوان المسلمين في الحكم أو زج البلاد في حرب أهلية.
إذا كان هذا هو موقف الإخوان المسلمين الذي يقبل بالتضحية بمصر من أجل البقاء في الحكم، فماذا سيكون عليه الحال لو سمح لهم بالبقاء في السلطة فترة زمنية كافية لاستكمال عملية "أخونة" الدولة؟ إن خطورة التعامل مع الأحزاب الدينية يكمن في افتقارها إلى أي برامج سياسية واقتصادية وإلى نزعتها لاحتكار الحقيقة كونها تستند عقائدياً إلى الدين. وبما أن الدين لا يخطىء فهذه الأحزاب تميل إلى الاعتقاد أنها لا تخطىء أيضاً.
وهي بذلك لا تشعر بالحاجة إلى تطوير نفسها أو حتى مراجعة نفسها .ومفهوم النقد الذاتي هو أقرب إلى الكفر من منطلق "وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم"، وتقبيل يد "المرشد العام" هي دليل الاستسلام والطاعة المطلقتين.
ومن هذا المنطلق فإن ميل هذه الأحزاب إلى استعمال سلاح التكفير هو رد طبيعي على أي محاولات للنقد أو الاختلاف في الرأي. وقد يكمن الحل المنطقي لهذا الوضع في تعديل القوانين بشكل يمنع ترخيص الأحزاب الدينية والطائفية وبالتالي يمنع مزاولتها للعمل السياسي.