الحنين إلى «الأوطان»

يبدأ الحنين إلى الوطن حين يغيب، ومن جربوا الغياب، وعانوا الفقد، لطالما باحوا بشوقهم إليه. وفي حالات، حين يطول الغياب بلا أمل برجوع، صاروا هم الوطن يحملونه في أهدابهم أينما حلوا.
النبي عليه الصلاة والسلام اتصف بحب الأوطان، فعندما أخرجه المشركون من مكّة قال:» أما والله لأخرجُ منك، وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت”.
وفي حب الوطن نظم إبراهيم طوقان أنشودته التي غدت تنشد في كل مكان ومناسبة:
 موطني         
الجلالُ والجمالُ     والسناءُ والبهاءُ         في رُباكْ
والحياةُ والنجاةُ     والهناءُ والرجاءُ         في هواك
هل أراكْ         
سالماً منعَّما     وغانماً مكرَّما؟     
هل أراكْ     في علاكْ
تبلغ السِّماكْ؟
موطني
ولرفاعة الطهطاوي قولة في هذا الشأن لا يصح أن نتجاوزها:
من أصل الفطرة للفَطن، بعد المولى حبّ الوطن.
وقال الشاعر الحمصي أمين الجندي، في مثل هذا المعنى، معبرا عن حبّه لمدينته حمص:
حُب حُمص قَد كَساني مَرَضا
  وَمِن الإِيمان حُب الوَطنِ
الشاعر التركي ناظم حكمت الذي قاسى الغربة عن وطنه بسبب مواقفه السياسية، اختصر الحكاية بصرخته المدوية: «آه يا وطني».
ومن رهيف شعر الحنين الى الديار قول سعيد عقل:
 يا شَـامُ عَادَ الصّـيفُ متّئِدَاً وَعَادَ بِيَ الجَنَاحُ
صَـرَخَ الحَنينُ إليكِ بِي: أقلِعْ، وَنَادَتْني الرّياحُ.
ويستذكر «صقر قريش» عبد الرحمن الداخل وطنه، عندما رأى نخلة زرعها في الأندلس التي أتاها هارباً من بني العباس:
تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة
                            تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهتي في التفرد والنوى
                             وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة
                             فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
ومن أجمل ما قيل في الحنين إلى الأوطان:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
                                          وحنينه أبداً لأول منزل
ويروى عن اسحاق الموصلي أبيات يصف بها شوقه لمدينته بغداد مخاطباً قلبه، تصلح لأن تقال في مثل يومنا هذا:
أتبكي على بغداد وهي قريبة
                            فكيف إذا ما ازددت عنها غداً بعدا
لكن ابن الرومي ينقل المسألة الى بعد آخر حين يعلن أن حرية الأوطان لا تباع:
ولي وطن آليت ألاّ أبيعه
                               وألّا أرى غيري له الدهر مالكا
 فالوطن، وفق الرومي، لا يملكه سوى أصحابه.
 ومن رائع شوق أحمد شوقي الى مصر، غداة كان منفيا في الأندلس:
وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه
                                   نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي
ولشوقي أبيات كثيرة في حب والحنين إلى الوطن، منها قصيدته التي مطلعها:
اختـلاف الــنهار والليل ينسي
                                     اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
وسلا مصر هل سلا القلب عنها
                                  أو أسا جرحه الزمان المؤسي
.. يبقى أن من أقسى ما يمكن أن يعانيه المرء، إنما هو أن يعيش غريباً في وطنه؟.