دواء الفراق في بقاء الأشواق
على ما يبدو فإن الكتابة عن ذكرى المناسبات الوطنية قد تحولت عند كتاب " كار السياسة " إلى ما يشبه الواجب المدرسي عند تلاميذ المدارس ، فما أن تهل وتحط ذكرى ما حتى نجد المقالات تنهمر كزخ المطر ، وهذا ما رأيناه وعايشناه مؤخرا مع ذكرى النكبة الفلسطينية التي لا تخلف وعدها بالحضور لزيارتنا في الخامس عشر من آيار من كل عام ، فعلى مدى خمسة وستون عاما ومناسبة النكبة تواظب على أن تطل برأسها علينا من نوافذ الذاكرة التي تحيط بنا عبر أرجاء المكان الأربعة
فلا مجال للهروب إلى الأمام أو حتى لتقمص دور اللامبالاة أو لتمثيل دور عدم الإهتمام ، فالتذكر على الأقل يفترض فيه أن يكون واجب وطني عند كل شرفاء وأحرار هذه الأمة وعلى الأخص مثقفيها وكُتابها المخلصين والصادقين في تناول همومها . مفاتيح العودة إلى فلسطين تنتشر وتغطي كامل رقعة المكان والكل يتباهى برفعها ، فحق العودة إليها مقدس وقانوني ، فكيف لا نتذكره في المحطة السنوية للنكبة ؟
الشموع والمشاعل أنارت ظلام الليل في العاصمة رام الله التي كانت تسهر قبل أيام من حلول ذكرى النكبة على وقع أجمل عرض أزياء تطوعت لتقديمه مجموعة من فتياتها التي لا مانع لديهن من إستعراض لحمهن وعوراتهن أمام الجمهور المتعطش الذي كان يلتف حول شارع العرض !.
وكذلك هو الحال مع عشرات الحملات الإحتفالية التي رفعت فيها الجماهير مختلف الشعارات ، ولا ننسى أيضا السلاسل البشرية الإستعراضية التي انتحب وبكى المشاركين فيها على فلسطين وإغتصابها ، ولن نقلل من شأن المجموعات التي إحتشدت على الحدود المتاخمة لفلسطين كما حصل في الجنوب اللبناني على سبيل المثال فما دامت العودة حلم دائم ، فما المانع في أن نعيش ذلك الحلم ولو ليوم واحد من باب التغيير و" شمة الهواء " في هذا الفصل الربيعي الجميل ؟!
ولأن النكبة ستظل محطة سوداء في التاريخ الإنساني الحديث على الأقل في نفوس ما يقارب 12 مليون فلسطيني حسب اخر الإحصائيات ، فلا مانع من أن نملأ السماء بالبالونات والرايات السوداء تعبيرا عن الحزن الدفين والمستوطن في القلوب والصدور ومنذ أن وقعت النكبة وحتى يومنا الراهن الذي نحتفل فيه بذكراها الخامسة والستون ، فحتى رئيس السلطة محمود عباس وفي الكلمة التي خاطب بها شعبه لم يجد سوى التعبير عن شعوره " بالمرارة " من وقوع النكبة ، فشكرا لسيادته ، وذكرى النكبة تتقدم من فخامته بالإعتذار والأسف على ما احدثته له وتسببت به من مرارة ، ولا ننسى بطبيعة الحال الفصائل التي فرضت عليها ذكرى النكبة أن تتوحد وتخرج في مظاهرات وإعتصامات مشتركة متناسية الإنقسام والخلاف الذي يعصف بالعلاقات القائمة فيما بينها .
هذه بعض الصور والأشكال التي رافقت إحتفالات هذا العام ، والتي غالبا ما تنتهي بمجرد دخول اليوم التالي الذي تتوقف معه معايشة الذكرى التي إعتدنا على أن تمر علينا كزوبعة في فنجان مناسباتنا الذي إمتلأ وفاض ، فنكسة حزيران على الأبواب وعلينا الإستعداد لإستقبالها بذات الجمل والمفردات وبذات الكتابة الشكلية التي لا مضمون فيها ولا جوهر ، فالدوران حول الساقية يجب ان يتواصل لأنه هو الأهم من وجود الماء أو من عدمه وللأسف. هذا هو حالنا اليوم مع نكبة فلسطين والتي لم يعد مطلوبا منها سوى أن تأخذ بيدنا نحو المزيد من النكبات ما دام خطابنا وقولنا مهزوم ويقطر ذلا وضعفا وخذلانا
فشكرا لكل الذين كتبوا وهتفوا وانتحبوا ، وشكرا لكل الذين شعروا وأحسوا وتعاطفوا معها ، وشكرا لكل الذين أشعلت الذكرى نار الحنين في صدورهم لبلداتهم وقراهم ، وشكرا للربيع العربي وللصيف والخريف والشتاء ، شكرا لكل الذين تحدثوا من دون أن يتركوا لا شاردة ولا واردة إلا وأعطوها حقها . لكن ، وقبل الإنتهاء من كتابة هذه السطور فإن من الواجب الوطني والنضالي والأخلاقي أن نُذكر الجميع بأن كل ما فعلوه ما عاد يؤثر على شعرة واحدة في جسد كيان هذا الغاصب والمحتل الصهيوني
فالصخب الذي أثرناه لا يعنيه ولا يكترث له ، فالمهم عنده هو أن تغيب المقاومة وأن تبقى على رفها الذي وضعت عليه ، وعليه فإن بعض الصدامات والإحتكاكات في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية ، ليست سوى حالة قد اعتاد عليها ، وهو كفيل وقادر على قمعها ولجمها وإمتصاص كل ما فيها من الغضب الشعبي الفلسطيني ، فافعلوا أيها الفلسطينيون والعرب والمسلمون كل ما يحلو لكم من طقوس الشجب والإدانة والإستنكار ، ولكن إياكم أن تمدوا أيديكم إلى البنادق ولتحذروا من إطلاق رصاصة واحدة علينا .
في ذكرى النكبة هذه هي المعادلة التي نريد أن نضعها نصب أعين الجميع من فلسطينين وعرب ومسلمين ، فكل الفعل الذي أقدمتم عليه هو ما دون الصفر في نظر عدوكم ما دام خاليا من إستحقاق المقاومة التي يرتعب ويخاف منها ، وحتى يعود المجد والإعتبار للبندقية ورصاصها الذي لا يخلف الوعد ، فلا مانع من أن نداوي هذا الفراق المزمن لفلسطين ولترابها ببقاء الأشواق والحنين لها وللعودة إليها كاملة غير منقوصة من البحر إلى النهر، ففي ذلك ما يزعج ويقلق هذا العدو ! .